أبحث عن..

Showing posts with label مقالات. Show all posts
Showing posts with label مقالات. Show all posts
انت مالك؟

"ما تزعلش مني أنا خايف عليك.. ويا بخت من بكاني وبكى عليا"، "مع احترامي ليك بس أنا مش قادر أسكت.. الساكت عن الحق شيطان أخرس"، "فكها شوية يا عم إحنا بنهزر في إيه"، "هو إحنا مش أصحاب ولا إيه ده من عشمي"، "أنت اتضايقت كده ليه.. أنا بسأل فضول مش أكتر"، "طالما مشهور تبقى حياته مش ملكه" بالتأكيد سمعت واحدًا من هذه الردود والمبررات كلما حاولت أن تبدي تذمرًا على تدخل أحدهم في شئونك الخاصة، وتبرع دون أن تطلب، فرض رأيه عليك و"التنظير" على خياراتك والطريقة التي تدير بها حياتك، أو على حياة إحدى الشخصيات العامة، سواء عبر منصات التواصل الاجتماعي المختلفة أو حتى وجهًا لوجه.


هل يسوق محبو دس أنوفهم في شئون الآخرين هذه المبررات لأنفسهم أو للناس في كل مرة يتدخلون فيها فيما لا يعنيهم؟ أعتقد أنهم لا يفعلون. هم لا يفكرون أصلاً في الأمر، ولديهم شعور عميق بالاستحقاق يجعلهم لا يرددون هذه المبررات إلا حين تعترض على ما يفعلونه وتسأل أحدهم باستنكار: "أنت مالك؟" أو تقولها على استحياء آملاً أن يصلهم المعنى نفسه، حينها ينزعجون ويخرجون فورًا مبرراتهم الجاهزة التي يقتنعون بشدة بها، حتى أن ترديدها لا يستغرق منهم ثواني للتفكير ويهاجمونك لأنك لبجاحتك تحتج على تدخلهم في شئونك!


في كتابه "أنت مالك" الصادر عن دار كيان للنشر، فند الكاتب الصحفي وشاعر العامية أشرف توفيق، كل هذه المبررات وهو يحاول أن يجيب على السؤال الذي يكاد يدفعنا إلى الجنون هذه الأيام: "لماذا يدس البعض أنفه في شئون الآخرين؟" بأسلوب سلس ورصين ولا يخلو من خفة الدم.


انت مالك ـ كتاب انت مالك ـ اشرف توفيق ـ سارة درويش






حلل من خلال الكتاب العديد من الظواهر الاجتماعية التي يتضاعف إزعاجها وخطورتها مع زيادة انتشار مواقع التواصل الاجتماعي، بداية من إساءة تفسير وتنفيذ وصايا الأديان بأهمية التناصح والتغافل عن آداب النصيحة، حتى تحولت من خلق حسن يرقى بالناس وبالمجتمع، إلى أمر بغيض ومنفر يعمق الخلاف بين الناس وأداة يستغلها البعض ليتعالوا على غيرهم ويشبعون نقصهم بـ"التنظير" على حياة الآخرين.

ومثلما ذكرنا الكاتب بفضل النصيحة ذكرنا كذلك بآدابها وشروطها وكيف يمكن أن يصنع كل منا لنفسه "ميزانه الحساس" قبل أن يقدم نصائحه هل هي: نصيحة في السر؟ عن علم؟ تقدمها بتواضع؟ هناك من طلبها أم أنك تفرض رأيك عليه؟ تقدمها بابتسامة وود؟ تهون الخطأ على المنصوح؟

تطرق كذلك إلى الخلط الشهير بين خفة الدم وإذابة الجليد بيننا وبين الآخرين، وبين جرحهم وتخطي حدودهم الشخصية، والتدخل في أمورهم الخاصة، الذي في الكثير من الأحيان يسبب جروحًا عميقة وأذى نفسيًا كبيرًا لا يمكن إصلاحه بسهولة.

حلل الكتاب الأسباب النفسية وراء "شهوة الفتي" لدى الكثيرين، وانتشار "حراس الفضيلة" الذين يحاصرون الناس ليل نهار ويتدخلون في أدق شئونهم ويحاسبونهم عليها، والذين بالمناسبة لا يسلمون هم أنفسهم من الفعل نفسه، ما يجعلهم في الكثير من الأوقات لا يعيشون الحياة التي يريدونها ولا يقولون ما يؤمنون به فعلاً لأنهم يخافون أن تطالهم حراب زملائهم من "حراس الفضيلة".

وأجاب الكتاب على سؤال مهم آخر هو "لماذا يقبل الناس مثل هذه التدخلات من الآخرين في حياتهم الشخصية؟ ولماذا لا تكون إجابتهم دائمًا على مثل هذه التدخلات هي الإجابة العظيمة السحرية..."أنت مالك؟ "وأوصى كل من يفعل بأن يكون أكثر توازنًا في التعامل مع الناس، فلا يتعامل مع من يقدم النصيحة لأنه يريد له الخير بفظاظة وقلة ذوق، ولا يتعامل مع من يهينه بدعوى النصيحة بتخاذل وخنوع، مشيرًا إلى أن الفرق بين هذا وذاك بسيط للغاية وهو "هل التزم بآداب النصيحة أم يتجاوز في نصيحته؟ "حينها لا ينبغي أن ترد عليه بأكثر من" أنت مالك".


رابط المقال على موقع جريدة اليوم السابع 

تاروت العلاقات

 بعنوان ذكي جاذب ومحتوى علمي مبسط قدمت الكاتبة هند عزت، في كتابها الصادر حديثًا "تاروت العلاقات" خارطة طريق لمن يسعى للاستماع بحياة عاطفية صحية؛ في وقتٍ تتناثر فيه آلاف النصائح للحصول على علاقة صحية عبر المئات من مقاطع الفيديو والمقالات والاقتباسات على مواقع التواصل الاجتماعي حول كيفية اكتشاف الشريك السام، والنرجسي، والعلامات الحمراء "ريد فلاجز" التي تنذر بضرورة الهرب وإنهاء العلاقة، ولا أحد تقريبًا يتحدث عن الخطوة الأهم وهي الفهم الصحيح لأنفسنا ولاحتياجاتنا والتأكد من أننا لن نكون هذا "الشريك السام" دون أن ندري.
يقودك الكتاب في رحلة من 5 محطات، في المحطة الأولى تطرح الكاتبة سؤالاً بسيطًا / معقدًا للغاية هو "من أنا؟" وتشرح ببساطة لماذا أنت بحاجة للتعرف على نفسك بشكل عميق وحقيقي قبل أن تحاول التعرف على شريك حياتك، الحالي أو حتى المستقبلي...

 وصفة مجربة لـ" كنس التعاسة"

أحب القطط؛ والقطط تحب البيت نظيفًا. كلما انتهيت من ترتيب غرفة تدخل قطتي بخطوات حذرة، تتشممها بعناية كأنها تتأكد أنني أتممت عملي على أكمل وجه، ثم تتمرغ في الأرض تعبيرًا عن فرحتها بالنظافة والنظام، فأشعر تلقائيًا بالراحة كأن ربة المنزل صعبة الإرضاء أثنت على عملي. مثلها أحب تلك اللحظة حين أنتهي من ترتيب البيت وأشم بقايا رائحة المنظفات على الأرضية وهي تمتزج مع رائحة المفروشات النظيفة. أشعر بأن كل المجهود الذي أبذله فيه يبدد سخطي وغضبي ويجعلني أفضل. 

سارة درويش ـ مقال سارة درويش ـ سارة درويش ـ الكاتبة سارة درويش

حين أكون محبطة، وتائهة وعاجزة عن إيجاد أي خطة لا أجد ما أفعله إلا أن أبدأ في ترتيب البيت وتنظيفه بعمق، فيتبخر شعوري بالإحباط وأمنح عقلي فرصة ومساحة ليتنفس، وأشعر حين يصبح كل شيء على ما يرام أنه بإمكاني دائمًا إصلاح كل شيء فأقول لنفسي: هل رأيتِ؟ مهما ساءت الأمور وانتشرت الفوضى ستأتي تلك اللحظة حين تعيدين بيتك نظيفًا.

يقول خبراء طاقة المكان إن ترتيب فوضى القلب يبدأ من ترتيب فوضى البيت، كنت كالكثيرين أسخر من هذه النصيحة وأراها مجرد كلمات منمقة يحبها خبراء الطاقة، ولكن علم النفس أيضًا يؤيد هذه النصيحة، فالعديد من الدراسات أثبتت أن هناك علاقة قوية بين النظافة والشعور بالسعادة.

ورصد الباحثون الأمريكيون خلال دراسة أجريت عام 2018 استجابات جسدية لا إرادية للمشاركين تعكس شعورًا بالإثارة والحماس العاطفي أثناء التنظيف. كما أجمع المشاركون في الدراسة على أن الانتهاء من التنظيف يمنحهم شعورًا براحة البال والتحكم في بيئتهم وشعورًا بالتصميم والفخر. فيما قال 81% من المشاركين أن التنظيف يجعلهم أقل توترًا وعصبية وعدائية فضلا عن الشعور بالإنجاز.

لا يقتصر الأمر على البالغين فقط، وإنما وجد استطلاع للرأي أجرته شركة للأبحاث الأمريكية أن الآباء لاحظوا أن أبنائهم درسوا بشكل أفضل عندما كانت غرفهم مرتبة. وقال 49% منهم أن هناك تحسنًا ملحوظًا في سلوك أطفالهم عندما تكون غرفهم نظيفة. بل إن الأطفال الذين عاشوا في بيئة نظيفة وتم تشجيعهم على أن يكونوا نظيفين منذ صغرهم أكثر ميلاً للتعاطف مع الآخرين بنسبة 60% من غيرهم، وأكثر استعدادًا لتقديم المساعدة للأشخاص في مجتمعهم كبالغين.

أظهرت الأبحاث أيضًا أنه يمكن تقليل التعاسة العامة ببساطة عن طريق التنظيف ففي إجابتهم على الاستطلاع قال  72% إنهم ينامون بشكل أفضل في منزل نظيف. وقال 80% منهم أنهم يشعرون بالمزيد من الاسترخاء وبضغط أقل حين يكون البيت نظيفًا.

أتذكر وأنا أقرأ تلك المعلومات كل تلك المشاهد في الأفلام حين يقرر البطل إنهاء مرحلة انهياره وضياعه فيكون أول ما يفعله هو أن يلملم كل الفوضى من بيته وكأنه يطرد التعاسة مع عبوات الوجبات السريعة والزجاجات الفارغة. تبدو الخطوة بسيطة جدًا ولكنها سحرية جدًا وتذكرنا أنه مهما ظننا أننا معدومي الحيلة خاليو الوفاض، يظل هناك ما يمكننا أن نفعله، ويظل بإمكاننا دائمًا كنس تعاستنا ومنح أنفسنا شعورًا أفضل، ومحيطًا أفضل.


مقال منشور بتاريخ 21 أكتوبر 2022 بموقع وجريدة اليوم السابع | المزيد من المقالات 

قصف جبهة!
«يا بنات عايزة رد حالا يقصف جبهة جارتى»، «يا بنات حماتى قالت لى كلمة ضايقتنى وعايزة رد يقصف جبهتها»، «شوفوا قصفت جبهتها إزاى؟» بالتأكيد تصادف واحدة من هذه العبارات مرة أو أكثر على أى منصة من منصات التواصل الاجتماعى، فضلا عن العشرات من لقطات الشاشة التى تسجل جزءا من محادثة بين اثنين، أحدهما يقصف جبهة الآخر، ويستعرض فنون الوقاحة فى الرد والسخرية، سواء كانت محادثات حقيقية، أو مختلقة فقط من أجل الاستعراض، ودائما ما تقابل هذه الردود بالتصفيق والتشجيع والاستحسان والإشادة بخفة الظل وسرعة البديهة، ولا يفكر أحد أبدا ماذا لو أنه فى مكان الآخر، ماذا لو أنه هو من يتلقى هذه الردود وليس قائلها؟ 
قصف جبهة ـ مقال ـ مقالات سارة درويش ـ سارة درويش ـ الكاتبة سارة درويش

بعد أن أصبحنا رسميا فى زمن «قصف الجبهة» لم يعد الشخص لطيف القول، حلو اللسان، إلا موضة قديمة وشخص بلغة هذه الأيام «نرم» ينهزم بعد أول قصف جبهة ويصمت، وهو ما يدفع الكثيرين - ممن يرفضون هذا الموقع - إلى أن يكونوا هم الطرف الآخر فى المحادثة، بأن يبحثوا عن ردود حارقة ومثالية، حتى لو لم تكن نابعة منهم، ولا تعكس شخصيتهم ولا تربيتهم ولا بيئتهم، فقط لأنهم - لا إراديا - لا يحبون أن يبدوا بهذا الضعف الذى عابوه وانتقدوه فى عشرات المحادثات المنشورة لقطاتها على السوشيال ميديا.

فى طفولتنا، كانت أمهاتنا وجداتنا - والكبار بشكل عام - يحرصون على تعليمنا فنون الرد المهذب على الآخرين، ويجدون لكل شخص عذرا لنتلطف معه فى القول، فهذا أكبر منا سنا لا ينبغى إلا أن نرد عليه بتهذيب، وهذا صغير ينبغى أن نكون رحماء معه، ونكون له قدوة ونحسن القول معه، وهذا جار أوصانا به رسولنا الكريم، وهذا قريب يربطنا به رحم، لا يجب أن تكون بيننا ضغائن، وإن انقطعت الأسباب والأعذار ففى النهاية علينا أن نحسن القول لأن كل إناء ينضح بما فيه، ولساننا الطيب يعكس تربية وبيتا طيبا، لا أعرف هل توقفت الأمهات والجدات عن تعليم أبنائهن ذلك؟ أم أن صوت الضحكات على السوشيال ميديا أعلى من تلك الأصوات التى تذكرنا بخلقنا الطيب؟

أذكر أننا فى الماضى كنا نتبادل قصصا من التراث العربى أو أخرى من التاريخ الغربى عن الفصاحة والردود المفحمة الذكية والساخرة، والتى كانت تحدث فى مواقف بعينها للخروج من موقف صعب، أو للدفاع عن النفس أمام إهانة قوية وكبيرة، وكانت تتم ببلاغة وفصاحة، تعكس سرعة البديهة مع خفة الظل والحكمة فى اختيار الكلمات، أما الآن ما يحدث هو أن الأحاديث الطبيعية العادية بين الناس توشك على الانقراض، وأصبحنا نعيش طيلة الوقت فى حرب كلامية ضروس، نفكر دائما فى ردود تصلح لأن «نبروزها» على السوشيال ميديا، ونحكى عنها مزهوين حتى ولو فى دائرة أصدقائنا، وحتى المجاملات العادية والتقليدية التى اعتدنا عليها، واعتدنا تبادلها فى الأفراح والمناسبات والتجمعات العائلية الروتينية أصبح البعض يكرس لفكرة أنها إهانة أو تطفل تتطلب ردا مفحما و«قصف جبهة» يخرس الآخر، وأكثر ما يحزن هو أن من لا يزال شخصا طبيعيا لا تحضره تلك الردود الحارقة المحرجة، فورا يشعر بالخجل من نفسه ومن ضعفه ويلوم نفسه مرارا بعد التفكير لساعات لاحقا فى أن واحدا من هذه الردود لم يواتِه لحظة النقاش أو الحوار.

أتمنى أن يستعيد حوارنا اليومى إيقاعه الطبيعى الهادئ «الطيب»، وألا نخجل ونحن نرد بذوق وبابتسامة على المجاملات التقليدية أو الأسئلة العادية كـ«عقبالك» «هنفرح بيكى إمتى» وغيرها، وندرك جيدا أنها لا يقصد منها إهانة ولا معايرة وإنما فقط هى أمنيات طيبة أخذ بعضها شكل الأسئلة، أتمنى ألا نلوم أنفسنا لأننا لم «نقصف جبهة» فلانا ولا علانا، فكما يقولون «بعض المعارك فى خسارتها شرف»، أتمنى أن نشكر الله فى كل مرة لأنه رزقنا نعمة الذوق واللسان الطيب، فالبعض لا يملكونه ويخسرون الكثير بسبب ذلك، سواء كانت خسارتهم من رصيد المحبة والقبول لدى الآخرين، أو خسارة المواقف لأنهم يضيعون حقهم بسلاطة اللسان وردود الفعل غير المحسوبة.

سارة درويش
مقال منشور بتاريخ 06 نوفمبر 2022 بموقع وجريدة اليوم السابع | المزيد من المقالات


ترجمة مقالي "ما يجب أن أعرف عن الحب الذي أستحق"

سارة درويش ـ مقال ـ ما يجب أن أعرف عن الحب الذي أستحق


تمت ترجمة مقالي "ما يجب أن أعرف عن الحب الذي أستحق" إلى الإنجليزية، في العدد الأول من مجلة إثمد الأدبية السعودية.

لقراءة المقال مترجم | لقراءة المقال بالعربية  


مجلة إثمد هي مجلة أدبية إلكترونية مختصة بنشر الأعمال الأدبية الشعرية والنثرية وبعض الفنون المرئية باللغتين العربية والإنجليزية سعيًا منها لإثراء المشهدين الأدبيين العربي والإنجليزي.




اللغز وراء سطور أحمد خالد توفيق

 "أفضل الأشياء كان دائمًا أبسطها" مقولة وردت في كتاب "اللغز وراء السطور" للأديب الراحل د. أحمد خالد توفيق، على لسان الناقد السينمائي الراحل سامي السلاموني، وأرى أنها تختصر أحد أكبر أسباب محبتي لـ "العراب"، الذي من فرط بساطته وصدقه وتواضعه، لم يحب كثيرًا ذلك اللقب الذي فرضه عليه قرائه، وعلق عليه في مقابلة تلفزيونية ببرنامج "وصفوا لي الصبر"، حيث قال: "العراب كلمة بتجنني ، بتخليني في مكانة مش بتاعتي ، الروب واسع عليا والعرش عَالٍ عليا".

في كتابه "اللغز وراء السطور" الذي صدر قبل عام واحد من رحيله، حاول د. أحمد خالد توفيق أن يفك "اللغز الكامن وراء السطور، لماذا تبدو هذه الفقرة جميلة وتلك مفككة؟ لماذا تمتعنا هذه القصة بينما تثير تلك مللنا"، وجمع في الكتاب عدة مقالات عن تجربته في الكتابة والأدب.

 حمل الكتاب عنوانًا فرعيًا هو "أحاديث من مطبخ الكتابة" ويجعلك بالفعل تشعر أنك تجلس إلى جواره على أريكة، يحكي لك ببساطة وصدق وخفة ظل عن "سر صنعته"، وحتى عن الأشياء التي تثير حنقه والتي تثير حيرته.

 كان أكثر ما لمسني في الكتاب مقاله عن المتحذلقين الذين يؤمنون بأن "من يحب أن يكون مثقفًا عليه أن يتحذلق ويكتسب آراء المثقفين في كل شيء"، وترديد كلام يبدو عميقًا ولكنه في الحقيقة فارغ من أي معنى لإكساب الشخص أهمية. وفي رأيي، هذا ببساطة هو السبب الذي جعله الشخص والكاتب الأحب إلى قلبي لأنه كان بعيدًا كل البعد عن التحذلق وادعاء العمق، وهو ما انعكس أيضًا على بطله، الأحب إلى قلبي، رفعت إسماعيل، الذي كان صادقًا وبسيطًا فاخترق قلبي بلا استئذان.

 لم تكن البساطة والبعد عن ادعاء العمق أسلوبًا في الكتابة وحسب بل كانت أسلوبًا لحياته، كان يكتب ببساطة، ويمارس حياته ببساطة، ويقابل قرائه ومحبيه ببساطة ويتحدث تمامًا كرفعت إسماعيل عن أحلامه الضائعة وطموحاته والعثرات التي يقابلها بنفس البساطة، فكان صدقه وبساطته يلتهمان في ثواني كل المسافة بينك وبينه وتشعر أنك تنتمي له، ولحروفه، ولعالمه بكل سهولة.

 من وقتٍ لآخر، أصادف على حسابات أصدقائي على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي صورة له، تفسر أيضًا "اللغز" الذي جمع ذلك العدد المهيب من المحبين المحزونين يوم رحيله. ففي صورة يجلس ببساطة يشرب الشاي وحوله عدد من الشباب من محبيه في إحدى الكافيهات، مرتديًا قميصًا وبنطلونًا، وجالسًا بينهم يتحدث بشغف أو يستمع إليهم بإنصات، أو يبتسم بخجل حين يفاجئه أحدهم بتعبيره عن محبته له. وفي صورة يحضر حفل زفاف أحد قرائه أو اصدقائه، نفس الشخص البسيط الخجول الذي يحرص على تلبية الدعوة للفرح رغم أنه ليس من عشاق المناسبات الاجتماعية الصاخبة. وفي صورة ثالثة تراه يسير ببساطة في أحد شوارع مدينة طنطا ويبتسم للكاميرا بخجل.

 كان سر "لغز" أحمد خالد توفيق أنه لم يكن يعرف فقط سر خلطة الوصول إلى القلب واختراقه، لكنه كان يعرف أيضًا تلك الخلطة التي تبعد بعض "الأدباء" و "المثقفين" آلاف الأميال عن عقل وقلب القراء، فقد قال في نفس الكتاب إنه "في عصور ضعف الأدب ينتصر الغموض وتكون هناك خلطة قوية الرائحة تخفي أن الطعام فيه لحم فاسد أو لا لحم على الإطلاق. أضف لهذه الخلطة الكثير من التحذلق والغموض والتعالي والقرف والاشمئزاز من سطحية القراء ولسوف تعبر... تعبر إلى المقهى الذي يجلس فيه الأدباء المشمئزون... جنة الميعاد".


رابط المقال على موقع اليوم السابع 

ما هو الحب كما يراه أمير شعراء الرفض "أمل دنقل"؟

كتبت سارة درويش

نشر بجريدة اليوم السابع مايو 2016  

"اطمئن لن أحبك" "يجب أن تعرفي أنك لن تكوني يومًا أكثر من صديقة" عبارتان مفعمتان بالتحدي والإنكار لهذه المشاعر التي ربما شعر كل منهما أنها بدأت تنمو داخله، جاءت بعدهما قصة حب رائعة خالفت تمامًا وعودهما ومحاولاتهما للإنكار.

وبعيدًا عن الأدب والشعر خلدت قصة الحب الرائعة هذه اسمي "عبلة الرويني" و "أمل دنقل" بشكل خاص في قلوب المحبين الذين لا يزالون يتبادلون حتى الآن الخطابات القليلة المتبادلة بينهما والتي نشرتها "عبلة" في كتابها الجنوبي.

ربما وقعا فى الحب من اللحظة الأولى، فعبلة قالت "من اللحظة الأولى سقطت كل المسافات والادعاءات والأقنعة، وبدا لي وجه صديق أعرفه من زمن"، ورغم وعدها الممتزج بالتحدي له "اطمئن لن أحبك" ربما كانت تعرف داخلها أنها ستحبه.

أما هو، الجنوبي الذي عرف النضح مبكرًا و"اغترب فى السابعة عشرة عن كل ما يمنح الطمأنينة" والذي اعترف فيما بعد أنه كان يستغرق فى الحب لكنه يهرب من التمسك به، فربما شعر بالقلق من تلك المشاعر التي بدأت تدب داخله، وهو ما دفعه فيما بعد إلى أن يقول لها في لقائهما الرابع دون مقدمات "يجب أن تعلمي أنك لن تكوني أكثر من صديقة!".

أمل دنقل و عبلة الرويني

هذا التحذير الذى استفز عبلة، كما قالت فى كتابها الجنوبي، هو نفسه الذي فضح مشاعره تجاهها وجعلها توقن أنه أحبها، وجعلها غضبها من تحذيره تدرك أنها أيضًا أحبته.

وكان "أمل" حسبما تصفه "عبلة" "شديد الصلابة كالجرانيت الصخري، لا يهتز سريعًا بل يصبح من الصعب إدراك طبيعة الفرح أو الحزن من ملامحه وجهه ومن نظرات عينيه، فهو قادر دائمًا على كتمان انفعالاته بل وأحيانًا على إظهار عكسها. لا يفصح عن مشاعره ولا تدخل قواميسه عبارات الإطراء وألفاظ الحب. إن إخفاء مشاعره وكتمانها سمة غالبة عليه؛ وعلى الآخرين وحدهم إدراكها دون إفصاح منه".

لم يكن "أمل" شاعرًا رومانسيًا إلا أن ما تركه وراءه من عبارات نثرية قصيرة جدًا كانت فحوى خطاباته لعبلة يعكس الكثير عن صورة الحب والزواج كما يفهمه أمل دنقل، كذلك حديثه عن عبلة فى الفيلم الوثائقى "ذكريات الغرفة رقم 8" الذى تم تصويره في فترة مرضه.

"في الحب أطلب ولاءً مطلقًا"

في خطابه لعبلة كتب "دنقل": كنت أستغرق في الحب لكننى في صميمي كنت هاربا من التمسك به، وأحيانا كانت تصرفاتي واختباراتي لمن أحب توحي للناظر من الخارج بالجنون، ونقلت لك منذ البداية أنني أطلب ولاء مطلقا؛ لكنني قلت لك أيضا إنك لو عرفتني جيدا فلن تتركيني.

 إنني أحس بالرقّة النبيلة التي تملأ أعماقك كسطح صافٍ من البلور، لكنني أخشى دائماً أن يكون هذا مؤقتاً لقد علمتني الأيام أن القلب كالبحر لا يستقر على حال.

"الحب وسادة في غرفة مغلقة"

في الخطاب نفسه، وردًا على اتهامها له بالمكر والدهاء دافع "دنقل" عن نفسه: إنني لا أحتاج إلى المكر أو الذكاء في التعامل معك، لأن الحب وسادة في غرفة مقفلة أستريح فيها على سجيتي، إنني أحب الاطمئنان الذي يملأ روحي عندما أحس بأن الحوار بيننا ينبسط ويمتد ويتشعب كاللبلاب الأخضر على سقيفة من الهدوء.

"الحب أن أكون معك كما لو كنت مع نفسي"

معنى آخر للحب كتبته في خطابه "إنني لا أبحث فيك عن الزهو الاجتماعي ولا عن المتعة السريعة العابرة، ولكني أريد علاقة أكون فيها، كما لو كنت جالسا مع نفسي فى غرفة مغلقة".

"الزواج أن أكون اثنين في مواجهة العالم"

في كتابها "الجنوبى" كتبت عبلة "ظل الاطمئنان الكامل هو جوهر ما يبحث عنه أمل فى علاقاته"، كانت تقصد بعباراتها كل العلاقات الاجتماعية وصداقاته لكن الأمر نفسه ينطبق على علاقته بها التي أشارت إلى أنه كان دائمًا "يبحث عن تأكيد دائم ويقين وراحة واطمئنان لا ينتهي".

أمل دنقل و عبلة الرويني

وربما حصل "دنقل" على هذا الاطمئنان أخيرًا بزواجهما، إذ قال في الفيلم الوثائقى "حديث الغرفة رقم 8" الذي تم تسجيله وقت مرضه "فى حياتى عمرى ما حسيت بكلمة الفرح دي إلا لما اتجوزت... حسيت إني أصبحت اثنين في مواجهة العالم مش واحد".

no image

كان من المفترض أن أكتب هذا المقال قبل يومين. حاولت البدء فيه فعليًا قبل ساعات. أكتبه الآن بعدما أدركت أنه لن يمكنني التأجيل أكثر. هل أنا كسولة؟ لا، بل كنت أماطل. كنت أبحث عن فكرة رائعة جدًا، ثم عن عنوان باهر وأخيرًا طريقة غير تقليدية لبدء المقال. هل تمثلك هذه التصرفات؟ إذن مرحبًا بك في نادي الباحثين عن الكمال، واصل القراءة!

إذا كنت تستغرق وقتًا أطول في إنجاز عملك مقارنة بزملائك لأنك تريد أن تحصل على نتيجة مثالية، أو تماطل طويلاً قبل البدء في إتمام مهمة مكلف بها لأنك تخشى ألا تكون رائعة كما تتمنى حين تنفذها، أو حتى كنت طالبًا تعيد مرارًا قراءة ورقة إجابتك حتى آخر لحظة من وقت الامتحان، للتأكد من أنك أتممت الإجابات كلها دون هامش خطأ ولو ضئيل جدًا، وإذا كنت تخاف جدًا من الفشل لدرجة أنك تتراجع عن الإقدام على الكثير من التجارب تجنبًا للفشل، وإذا كنت تعود لبيتك كل ليلة مثقلاً بالإحباط والخيبة لأنك تشعر أنك لم تنجز كل ما تريد بالطريقة الرائعة التي كنت تريدها، فربما حان الوقت لأن تبدأ القراءة والبحث عن الكمالية "perfectionism".

الكمالية أو هوس المثالية أو السعي للكمال في علم النفس هي سمة شخصية (وأحيانًا توصف بأنها اضطراب) يسعى أصحابها إلى الوصول للكمال في كل شيء يفعلونه وبالتالي يعملون وفق معايير عالية جدًا، ولديهم صوت داخلي ناقد شديد القسوة بالإضافة إلى خوف شديد من التعرض للنقد ومواجهة الفشل، لذا يبذلون كل ما في وسعهم لتجنب ذلك.

الكماليون دائمًا ما يتقنون عملهم لدرجة مبالغ فيها، ويضغطون على أنفسهم بشدة ليحققوا أهدافهم، التي في الكثير من الأحيان لا تكون واقعية، وهم معرضون بالطبع للشعور بالكآبة والإحباط إذا لم يحققوا تلك الأهداف. لا ترتبط الكمالية فقط بالعمل وإنما تؤثر على كافة مناحي حياتهم، فهم يبحثون عن علاقات مثالية، شكل وجسد مثالي، يرغبون في تربية أبناء مثاليين ويبحثون عن نمط حياة مثالي بشكل عام، وهو ما يشكل ضغط رهيب عليهم، كثيرًا ما يمتد على المحيطين بهم.

قبل سنوات كنت أشعر بالفخر كوني واحدة من هؤلاء الساعين نحو الكمال، المتقنين لعملهم بشدة والمتفانين فيه، حتى أدركت الحقيقة، وواجهت نفسي بقدر الضغط النفسي الذي أتحمله على عاتقي، وكم مرة عطلتني الكمالية عن الإنجاز. رأيت الدائرة المفرغة التي أقع فيها كل يوم: أماطل في بدء تنفيذ عملي لأنني أريد أن يكون رائعًا، أقضي ساعات طويلة مشغولة بالعمل دون أن أعمل فعلاً، يمزقني خلال هذا الوقت الضائع شعوري بالذنب والإحباط والقلق، وحين تحاصرني عقارب الساعة وأجد نفسي مضطرة لإنجاز عملي، أفعل ذلك في وقت قياسي وتكون النتيجة جيدة، فأتحسر على ما أضعته من ساعات قبل إنجاز العمل!

لم أتخلص من الكمالية على الإطلاق، ولكنني أتذكر كل مرة هذه الدائرة المفرغة. أحاول قدر الإمكان ألا أقع في الفخ. أنجح مرات وأفشل مرات ولكنني على الأقل أعرف أن هناك مشكلة ما بانتظار الحل.

حين قرأت أكثر عن الكمالية، عرفت أن إدراكي أن هناك مشكلة ما هي مرحلة مهمة يسمونها مرحلة "الوعي الذاتي". وهي المرحلة الأولى التي لن يمكنك أن تقطع الطريق من دونها، فمن الضروري أن تنتبه إلى ما يحدث، وتدرك الشعرة الرفيعة بين رغبتك في إتقان العمل والتحضير له وبين المماطلة بسبب سعيك للكمال.

المرحلة التالية مرتبطة أيضًا بما يدور في داخلك، ينبغي أن تتعلم كيف تسمح لنفسك أن ترتكب الأخطاء، وأنها لن تكون نهاية العالم وأن بإمكانك الفشل وإعادة المحاولات مرارًا.

هذه المرحلة تتطلب أيضًا أن تخفض صوتك الناقد قليلاً، لا تسمح للنقد أن يتحول إلى جلد مدمر للذات، ولا تسمح له أن يزعزع ثقتك بنفسك وبقدراتك ومهاراتك.

الخطوة العملية التالية هي أن تحدد أهدافًا معقولة وواقعية من كل مهمة أنت بصدد القيام بها. اجعل أهدافك قابلة للقياس وقابلة للتنفيذ أيضًا لتقلل من شعورك بالتوتر وتتمكن من تحقيقها فتتخلص بالتالي من شعورك المستمر بالإحباط.

من المهم كذلك أن تكون رفيقًا بنفسك، ألا تضغط أكثر من اللازم على نفسك وفي هذه المرحلة تحتاج لتذكير نفسك مرة أخرى أنه لن يمكنك بلوغ الكمال وأنه لا بأس إن أخطأت.

أما الخطوة الأهم على الإطلاق فهي أن تبدأ. لا تستسلم للمماطلة أبدًا. ابدأ الآن حتى لو كنت تظن أنك غير جاهز بعد، وأن الفكرة ليست رائعة وأنك لا تعمل بمزاج وطاقة جيدين. ابدأ وذكر نفسك دائمًا أن هناك فرصة للتطوير والتعديل، وأنه لن يمكنك أبدًا أن تطور شيئًا غير موجود من الأساس.

حين تنجز مهمتك أخيرًا وتجد نفسك على وشك دخول دائرة مفرغة أخرى من التعديل الذي لا ينتهي والتطوير والرغبة في الهدم ثم البدء من جديد، قد يكون مفيدًا أن تستعين بآراء أخرين يُقيّمون عملك بموضوعية بعيدًا عن صوتك الناقد القاسي.

كانت هذه خلاصة تجربتي في محاولة ترويض وحش الكمالية. لم أتخلص منها بالطبع. وربما لا أريد أن أتخلص منها تمامًا، فبدرجة ما، أعرف أن لها مميزات عدة، أعرف أنها تحفزني لأكون شخصًا أفضل وأن أقدم عملاً متقنًا وأهتم بتفاصيله، ولكنني على الأقل أحاول ألا تجعلني أقف مرة أخرى "محلك سر" مع أكوام من "الأفكار الرائعة جدًا" التي لا أنفذها أبدًا خوفًا من الفشل.


رابط المقال على موقع اليوم السابع

العزيز رشوان توفيق.. "أنا أهتم كثيرًا"

في أمسية هادئة جلست لأشاهد فيلمًا رشحته صديقة لي. على الشاشة أمامي كنت كمن يرى مشهدًا من أحلامه: امرأة ستينية هادئة ورائقة، تجلس إلى طاولة في غرفة مرتبة بمنزلها الأنيق الهادئ، يتسرب ضوء النهار مع نسيم الصباح المبكر من خلف الستارة الرقيقة على النافذة.  تحتسي مشروبًا دافئًا أعدته لنفسها للتو. وجلست لتتفقد الجرائد بهدوء بينما موسيقى ناعمة تدور في خلفية المشهد.

 فجأة تمزق المشهد المفعم بالسلام والراحة بطرقات على الباب. تذهب لترى وهي مندهشة من ذلك الزائر المبكر، فتجد امرأة أنيقة بابتسامة مشرقة وملابس زاهية اللون، تخبرها أنها من اللحظة عينت وصيّة عليها من المحكمة وأنها من الآن وصاعدًا لم يعد بوسعها التصرف في حياتها كما يحلو لها لأنها، بناء على قرار المحكمة ذلك، تعرف مصلحتها أكثر منها وستتولى الاهتمام بشؤونها، حيث يتيح القانون تعيين وصي من قبل المحكمة على المسنين الذين لا يمكنهم العناية بأنفسهم، ويعانون إهمالاً من ذويهم أو لا يوجد من الأساس أقارب يمكنهم الاهتمام بهم. وبموجب قرار الوصاية ذلك يحق لصاحبة الابتسامة المشرقة إلحاقها بدار للمسنين وتولي المسؤولية القانونية عن كافة ممتلكاتها.

هذا المشهد من بداية فيلم "I care a lot" أو "أنا أهتم كثيرًا" وهو فيلم أمريكي من إنتاج 2020 وعرض في 2021 ومصنف كفيلم "إثارة كوميدي" إلا إنه لم يفعل شيئًا سوى استفزازي واستهلاك أعصابي. هل كان الكوميدي في الفيلم أن من حصلت على هذا الأمر من المحكمة نصابة ومحض لصة ؟ لا أرى الأمر كُومِيدْيَا حين أطبقه على الحياة. لم أستمتع بالفيلم، لم يمكني أن أقول لنفسي، كما أفعل عادة، "مهلاً إنه مجرد فيلم في النهاية". كنت مُستفَزّة وغاضبة وأشعر أنني تلك المرأة التي سلبت حياتها للتو.


تلك الطرقات على الباب التي أفسدت الصباح المثالي لهذه المرأة الستينية أفسدت أمسيتي أيضًا، وجعلتني أشعر بالغضب كلما تذكرت الفيلم. تخيل أن تكون في هذا المكان: لقد عشت وواجهت الحياة بصبر، اتخذت قرارات بعضها صائبا وبعضها لم يكن كذلك، لكنه على الأرجح علمك درسًا لا ينسى بسهولة. عملت بجد، وتكاسلت أحيانًا. قاتلت من أجل فرص رأيتها ذهبية، وفوت فرص أخرى لأنك أسأت تقديرها أو ربما لم تعرف أنها فرصة. وصلت في النهاية إلى تلك المرحلة التي تشعر فيها أنك تستحق الراحة. تستحق أن تستمتع بما حصدت. تتوقف أخيرًا عن اللهاث ومطاردة الفرص وتحمل المسؤوليات والأعباء وتحمل عبء قلبك وحده كما يقول درويش.

تخيل أن تصل لهذه المرحلة أخيرًا ثم تفاجأ بمن يزيحك جانبًا ويسلب منك حياتك. يضع بين يديك ورقة تخبرك أنه أدرى بشؤونك منك وأنه من الآن وصاعدًا سيكون الآمر الناهي في كل ما يخصك! يتهمك أنك أصبحت مشوشًا بحكم التقدم في السن ولم تعد قادرا على الحكم على الأمور بشكل جيد، ولا العناية بنفسك وبالتالي فهو سيتصرف بدلاً منك.

حاولت أن أنسى الفيلم الذي شاهدته قبل شهور. تجنبت كل مقاطع الفيديو التي تنشر عنه، كل المراجعات وحتى الصور التي تصادفني على السوشيال ميديا كنت أمررها سريعًا، لأنه يضغط بشدة على أعصابي ويثيرها؛ ولكنني تذكرته رغمًا عني وأنا أتابع- كالكثير من المصريين- أزمة الفنان رشوان توفيق الذي فوجئ أن ابنته وحفيده رفعا ضده دعاوى قضائية بسبب اعتراضهم على إعادته توزيع ممتلكاته على أبنائه وأحفاده. والتي سرعان ما تحولت إلى قضية جدلية على السوشيال ميديا يدلي كل شخص بدلوه فيها، ويصدر الأحكام على قرارات الأب الفنان، ناسين أو متناسين أنها لا تزال حياته، وأنه لا يحق لأحد أن يسحب منه حق التصرف كما يشاء في حصاد عمره وكده ويخبره أنه "يهتم أكثر" لأمره وأدرى منه بما يجب أن يفعله!

حين تابعت ما يحدث الآن في أزمة الفنان رشوان توفيق وذلك الرفض والغضب من غالبية المجتمع للواقعة والتعاطف والمساندة للفنان القدير، شعرت أن هذا لم يكن فقط لأنه فنان عرفوه وأحبوه وأحبوا ما قدموا، ولكن لأنه أب في المقام الأول وإنسان ولا يحق لأحد أن يسلبه حقه في الاختيار ولا التصرف. وشعرت بالطمأنينة لأن عبارة "أنا أهتم كثيرًا" التي تعتبر نكتة في الفيلم، حقيقية هذه المرة، وذلك الغضب لأجل الفنان الأب حقيقى ويعكس خوفًا داخل كل منا من تلك اللحظة التي لا بد وأن تأتي ويتقدم به العمر ولا يريد أبدًا أن يظهر من يسلبه حقه في الاختيار واتخاذ القرارات بدعوى أنه "مهتم كثيرًا" بأمره.


رابط المقال على موقع اليوم السابع 

"حدوتة تخوف"




"أبو رجل مسلوخة" "أمنا الغولة " "النداهة" كثيرًا ما نتذكر هذه الوحوش المرعبة من طفولتنا ونحن نرى اليوم أطفالنا يحتفلون بالهالوين مع رموز مختلفة للرعب بين أشكال الأشباح والقرع العسلي والقطط السوداء والساحرة الشريرة.

هل تذكر تلك الوحوش المرعبة من طفولتك؟ هل تذكر القشعريرة التي سرت في جسدك وأنت مندس في سريرك الدافئ إلى جوار إخوتك أو ربما متمسك بحضن جدتك ورغم كل ذلك الخوف الذي يضاعفه خيال الأطفال في عقلك إلا إنك تستجديها أن تكمل حكاياتها المرعبة والمثيرة.

في زمن التربية الإيجابية، أصبحنا نسخر كثيرًا من هذه الحواديت المرعبة، فيما يحذر خبراء من استخدام الوحوش الوهمية لتهديد الأطفال وإخافتهم تأتي المفاجأة أن هذه الحكايات المرعبة مفيدة للأطفال أكثر من تلك الحواديت الوردية ذات النهايات السعيدة.

الكاتب الإنجليزي كافان سكوت تحدث في إحدى المقابلات عن تجربته حين أجرى ورشة عمل عن القصص المخيفة والوحوش لمجموعة من الأطفال بين سن 8 و12 عامًا، وفي نهاية الورشة جاءت إحدى الأمهات القلقات تعبر عن استيائها من أن يسمع طفلها هذه الحكايات ويعاني من الكوابيس ليلاً إلا إنه أخبرها أن إدخال القليل من الخوف في الكتب الموجهة للأطفال أمر مهم.

السبب الأول في رأيه هو أن هذا ممتع، فنحن نحب أن نكون خائفين طالما أن لدينا شبكة أمان، وفي هذه الحالة شبكة أماننا هي أننا نقرأ هذه القصص المرعبة بينما نحن آمنون في بيوتنا.

السبب الثاني هو أن العالم مخيف بالفعل؛ خاصة للأطفال الذين يعانون من الخوف والغضب وربما الإحباط من الكثير من الأشياء التي لا يفهمونها في هذا العالم، ومن الصحي أن يجدوا وسيلة تساعدهم على التنفيس عن مشاعرهم السلبية تلك.

أما السبب الأهم، هو أن القصص المخيفة تساعد الأطفال على تعلم كيفية التعامل مع العالم الحقيقي، تعلمهم أنه لا بأس من أن يشعروا بالخوف وأنهم أحيانًا سيواجهون مواقف صادمة ومرعبة وأنه سيكون عليهم أن يتعاملوا معها، وأهمية التفكير للبحث عن حلول للمشكلات.

ختم الكاتب دفاعه عن فكرته بأن أهمية الرعب والحواديت المخيفة للأطفال لا يعني أن هناك شعرة بين الخوف الصحي والرعب المدمر لنفسيتهم. ولا ننسى أن المبالغة في مشاهد الدماء والأشلاء والعنف أمر خطير ويمكن أن يؤثر على الأطفال سلبًا ويجعلهم يميلون للعنف.


رابط المقال على موقع اليوم السابع 

هل تزيل وشمك اليوم؟



"هذا اليوم يقول، إن بعض الأخطاء لا يجب أن تكون دائمة. هو يوم الانتصارات المؤلمة والبدايات الجديدة. يوم لإزالة الماضي والاحتفال بمظهر أنظف"، هكذا وصفوا "اليوم الوطني لإزالة الوشم" على واحد من المواقع التي تسجل الأيام العالمية الرسمية وغير الرسمية.

في 14 أغسطس 2018 تم إطلاق اليوم الوطني لإزالة الوشم في الولايات المتحدة الأمريكية. وفقًا للمعلومات المتوفرة على الإنترنت فإن هذا اليوم يهدف لزيادة الوعي بصناعة إزالة الوشم بالليزر ودعم الأشخاص المهتمين بإزالة الوشوم غير المرغوب فيها والتعرف على أفضل الممارسات لذلك. بعض العيادات المتخصصة في إزالة الوشم بالليزر تقدم في هذا اليوم الكثير من الخصومات والعروض، تمتد نحو شهر كامل. ويقولون إنه تم اختيار هذا التاريخ بالتحديد لأنه يسبق الاحتفال بعيد الحب ب 6 شهور، وهو الوقت الكافي للتعافي من إزالة الوشم، ليمكنهم بذلك استقبال عيد الحب وقد تخلصوا من كل ما يتعلق بالماضي أو بالحبيب السابق.

قد يبدو هذا اليوم غير مهم على الإطلاق لأولئك غير المهتمين بالوشوم ولم يجربوه يومًا، أو أولئك القانعين بالوشم الذي اختاروه ولا يفكرون في إزالته، ولكن حين عرفت بهذا اليوم شعرت أنها فكرة رائعة جِدًّا أن يذكرنا أحدا أن الوقت لم يفت أبدًا على إصلاح أخطائنا مهما ظننا أنها فادحة، وحتى لو لم يكن بإمكاننا إصلاحها بالكامل ولا استعادة أنفسنا كما كنا يمكننا على الأقل أن نأخذ خطوة ما نحو جعلها أقل فداحة، وأن نعبر على الأقل عن رغبتنا في التخلص منها.

كثيرًا ما نغرق في التعاسة لأننا نظن أن خيارنا الكبير، الذي اكتشفنا أنه لم يكن مناسبًا لنا، ملتصقا بنا كوشم من المستحيل إزالته، فنستسلم للحياة به دون أن نفكر حتى في محاولة تغييره، كأننا نعاقب أنفسنا على القرار الخاطئ بأن ندفع عمرنا ثمنًا له.

كثيرًا ما يحاصرنا المحيطون بنا بعبارات مثبطة "لقد اتخذت خيارك ويجب أن تتعايش معه"، "فات أوان التعايش"، "الانسحاب لن يكون سهلاً"، "التخلص منه لن يكون سهلاً سيخلف ندبة للأبد".

حسنا، لا أمانع في أن أحمل ندبة للأبد تذكرني أنني أخطأت، وأنني كنت شجاعة بما يكفي لأواجه نفسي بأنني أخطأت، وشجاعة مرة أخرى لأصلح الخطأ. لقد أحببت فكرة "يوم إزالة الوشم" وأتمنى أن أتذكر في 14 أغسطس من كل عام أن أتخلص من وشم/ خيار خاطئ، وأذكر نفسي أن "بعض الأخطاء لا يجب أن تكون دائمة".


رابط المقال على موقع اليوم السابع

ما افتقدته مي في حب جبران عن بُعد

 "أنت مصيبتي منذ أعوام" عبارة مفجعة دونتها "مي زيادة" على صورة "جبران خليل جبران" بعد رحيله، وبعد أن أصابها غيابه هذا بصدمة عصبية كبيرة تدهورت على إثرها حالتها النفسية، وظلت على هذه الحال حتى لحقت به في 17 أكتوبر 1941. 

هذا الحب الكبير الذي عاش قرابة 20 عامًا دون لقاء واحد يشبع ظمأ العاشقين للحب، تبقت آثاره واضحة في رسائل "جبران" إلى "مي" فحسدتها عليه الكثيرات، ولكنه في الحقيقة كان محملاً بالوجع كأى علاقة حب عن بعد خاصة بالنسبة لـ"مي"، التي لا ترضى من الحب بالقليل. هذه القصة الأسطورية للحب المتواصل لسنوات طويلة يتحدث عنها الجميع بإعجاب ولكن لا أحد يفكر أبدًا فيما افتقدته "مي" في هذه العلاقة، ولكن رسائلها إلى جبران، وردود "جبران" عليها وكتابات كلاهما عن الحب باحت بما افتقدته "مي" في "الحب عن بُعد".



"الاحتماء به.. بالجسد ليس بالروح فقط"

فى خطاب صريح متفجر بالمشاعر الحقيقية والجريئة كتبت "مي" لجبران "أريد أن تساعدني وتحميني وتبعد عني الأذى، ليس بالروح فقط، بل بالجسد أيضاً، أنت الغريب الذي كنت لي - بداهة وعلى الرغم منك - أباً وأخاً ورفيقاً، وكنت لك أنا الغربية - بداهة وعلى الرغم مني - أماً وأختاً".

لا نعرف هل باحت "مي" باحتياجها هذا بعفوية وبساطة، أم مزقت الورقة مرات عديدة نازعها فيها كبرياؤها قبل أن تقرر أن تكتب هذه السطور وتعبر بوضوح عما ينقصها في البعد.


"تفاصيله.. عدد دقات قلبه وكيف يمضي نهاره"

في عصرٍ شحيح بوسائل تواصله كادت "مي" أن تجن في محاولة تتبع تفاصيل "جبران" التي لا تشبع خطاباته جوعها إليها، تلك الخطابات المليئة بسطور الغرام والحب والفلسفة والآراء الأدبية المتبادلة لم تكن تكفيها، كانت تلتهمها بحثًا عن أخباره "هو" وتفاصيله ولا تجدها، فكتبت إليه "حدثني عنك وعن صحتك، واذكر عدد ضربات قلبك، وقل لي رأي الطبيب، افعل هذا، ودعني أقف على جميع التفاصيل كأني قريبة منك، أخبرني كيف تصرف نهارك، أتوسل إليك أن تتناول الأدوية المقوية مهما كان طعمها ورائحتها، فمن هذه المقويات ما هو ضروري كل الضرورة، مفيد كل الإفادة، وكل ما تفعله لوقاية نفسك أحسبه أنا لك، يداً علي، وأشكرك لأجله لكل ما في قلبي من صداقة ومودة. أرسل لي سطراً أو سطرين من أخبارك بلا اجتهاد".


"رؤية الفتى الذي تحب"

طوال أعوام طويلة كانت هي فيها داخل مصر وهو في "نيويورك"، وبعد مواعيد ووعود كثيرة بزيارتها في القاهرة، أو زيارته في "نيويورك" لم يكتب القدر للحبيبين اللقاء، وظل ذلك الحلم والألم يعذب "مي" التي كانت تشعر بالوحشة والحزن والشوق وتحلم فقط بأن ترى يومًا وجه حبيبها.

وكعادتها حكت "مي" في خطابها عن ذلك وكتبت له "غابت الشمس وراء الأفق، ومن خلال السحب العجيبة الأشكال والألوان حصحصت نجمة لامعة واحدة هي الزهرة، آلهة الحب، أترى يسكنها كأرضنا بشر يحبون ويتشوقون؟ ربما وجد فيها بنت هي مثلي، لها جبران واحد، حلو بعيد هو القريب القريب. تكتب إليه الآن والشفق يملأ الفضاء، وتعلم أن الظلام يخلف الشفق، وأن النور يتبع الظلام، وأن الليل سيخلف النهار، والنهار سيتبع الليل مرات كثيرة قبل أن ترى الذي تحب، فتتسرب إليها كل وحشة الشفق، وكل وحشة الليل، فتلقى بالقلم جانباً لتحتمي من الوحشة في اسم واحد: جبران".





"الأمان..."

كانت "مي" رغم بلوغها الثلاثين فتاة حساسة تمزقها الحيرة والخوف وانعدام الأمان، كانت تشعر بالكثير من الخوف إزاء الحب والقلق والحيرة تجاه طبيعة العلاقة التي تربطها بـ"جبران" وتسميها على استحياء "حبًا"، كتبت له في خطاب مليء بالاعترافات "ما معنى هذا الذي أكتبه؟ إني لا أعرف ماذا أعني به ! ولكني أعرف أنك "محبوبي"، وأني أخاف الحب، أقول هذا مع علمي بأن القليل من الحب كثير.. الجفاف والقحط واللا شيء بالحب خير من النزر اليسير، كيف أجسر على الإفضاء إليك بهذا، وكيف أفرّط فيه ؟ لا أدري".

هذا الخوف لمسه جبران وحاول طمأنته في إحدى رسائله "لا تخافي الحب يا مارى، لا تخافي الحب يا رفيقة قلبي، علينا أن نستسلم إليه رغم ما فيه من الألم والحنين والوحشة ورغم ما فيه من الالتباس والحيرة"، لكنه أبدًا لم يغير شيئًا بشأن ما افتقدته في ذلك الحب المنقوص عن بعد. 


نشر للمرة الأولى بموقع جريدة "اليوم السابع" ــ أكتوبر 2015 

نمط غير شائع يشبه توم هانكس

 إذا كنت تبحث في مجموعة توم هانكس القصصية "نمط غير شائع" عن قصص مليئة بالأحداث الساخنة والحيوات التى تتعقد وتصل إلى ذروة مآسيها ثم تنحل العقدة تدريجيًا ويحظى الجميع بنهايات عادلة سعيدة، أو يحدث العكس ويزداد الأمر سوءًا وتكون النهايات صادمة، سيصيبك الإحباط لأن قصص المجموعة لا تشبه هذا النوع من القصص وإنما هي أقرب إلى توم هانكس نفسه، الممثل الذي تكمن موهبته في رأيي في أنه يقنعنا دائمًا أنه يشبهنا، أنه ليس بطلاً خارقًا ولا مثاليًا أكثر من اللازم وإنما مجرد إنسان آخر، حتى لو صادف أن يقوم هذا "الإنسان العادي" بعمل بطولي!

نمط غير شائع ـ توم هانكس ـ كتاب توم هانكس

تشبه المجموعة توم هانكس أيضًا لأنها تعكس الكثير من اهتمامته، أبرزها ولعه بالآلات الكاتبة، التي لا بد أن تجد واحدة منها في كل قصة تقريبًا، واهتمامه بعالم الفضاء وممارسة بعض الرياضات كالغطس وركوب الأمواج.

أعترف أنني شعرت بالملل في بعض القصص لأنني لا أملك الولع نفسه بكل اهتماماته، وبسبب كثرة التفاصيل الدقيقة التي أحيانًا ما تربكني كقارئة. ولكن في النهاية القصص تشبه عدسة مكبرة سلطها لدقائق على رقعة من حياة بعض الناس وقصصهم، بعض الناس الذين يبدون عاديين جدًا ويشبهوننا.

كما أن فكرة استخدام الشخصيات نفسها في أكثر من قصة متفرقة كان غريبًا بالنسبة لي لكنه في النهاية منحني شعورًا بالألفة معهم، شعرت أنني كنت أشاهد حلقة من مسلسل وفي القصة التالية شاهدت حلقة أخرى وهكذا.

أما فكرة "جريدة بلدتنا" فكانت غريبة وغير تقليدية ولكن استخدام أسلوب أعمدة الجرائد في كتاب كانت مرهقة لي في القراءة ومشتتة.

بشكل عام أحببت نمط توم هانكس غير الشائع، وأحببت روحه الواضحة في القصص وشعرت أكثر أنه صديق مقرب لي، وبعض القصص تمنيت لو تتحول إلى أفلام ولو حتى أفلام قصيرة. ولكن الترجمة أفسدت عليّ الاستمتاع بالكتاب في أوقات كثيرة، فجاءت في بعض المواضع حرفية، وفي مواضع أخرى لم تتم مراجعتها تحريريًا وهو ما يتضح في العبارات التي تحمل كلمات أو تعبيرات مكررة بنفس المعنى.

قال أحدهم في مراجعته للكتاب إن توم هانكس ممثلاً عبقريًا لكنه كاتبًا عاديًا، ولكنني أظن أنه ربما لم يكن مهتمًا بأن يكون كاتبًا عبقريًا وإنما أراد فقط أن يعبر عن الحياة التي يعرفها ويريد منا أن نعرفها أيضًا.


نشر بجريدة اليوم السابع في مارس 2020 

أنا عندي حلم كبير



نضحك كثيرًا من سذاجة وبراءة الأطفال الذين يحلمون أن يكونوا أبطالاً خارقين، ولا ننتبه أبدًا إلى أننا أحيانًا نقع في الفخ ذاته، ونفني عمرنا جريًا وراء حلم خارق لا يناسب إمكاناتنا ولا قدراتنا، والأسوأ أنه في الأصل لا يخصنا ولا نريده لأنفسنا وإنما نريده لنبدو رائعين في أعين الناس.

تمتلئ صفحات الإنترنت وتطبيقات الفيديو باللاهثين وراء الشهرة، متسولي الإعجاب والمتابعة حتى لو اضطروا إلى أن يظهروا كمجانين أو يفضحون أنفسهم أمام العالم. بشكل مواز يبحث الكثيرون داخلهم بنهم عن موهبة متوهمة، يرغبون أن يكونوا أشخاصًا مؤثرين وملهمين، أن يكونوا كتابًا رائعين أو موهوبين في الغناء أو التمثيل أو ربما الرسم، وكأن مجرد كونك قارئًا أو مستمعًا جيدًا أو شخصًا عَادِيًّا لم يعد شيئًا مقبولاً بعد الآن.

في سنوات مراهقتي وما تلتها، كنت دائمًا ما أدون في خواطري وأقول للمقربين مني أن لديّ حلمًا كبيرًا. أحلم بأن أغير العالم، أغير كل ما يحيط بي من سلبيات، وأنني يومًا ما سأترك هذه البصمة التي لن تمحى حتى بعد موتي بعشرات وربما مئات السنوات.

كنت أؤمن أن لديّ هذه القدرة، ولم أسأل نفسي أبدًا بعقلانية عما  أريد تغييره بالضبط، ولا كيف سأفعل. كانت عبارة "عندما أكبر" تبدو بعيدة بعض الشيء فلم أفكر كثيرًا ولم أنشغل كثيرًا بالتفاصيل.

حين كبرت وتخرجت وبدأت البحث عن عمل، خرجت من بيت أبي لأن المهنة التي أحبها مستقبلها في القاهرة، واجهت العالم وحدي للمرة الأولى شعرت أنني في ورطة. انغمست لسنوات في محاولات اكتشاف نفسي الحقيقية، نفسي التي تواجه هذا العالم وحدها للمرة الأولى دون الاعتماد على أحد. نسيت لسنوات طويلة حلمي الكبير بأن أغير العالم وشعرت بسبب ذلك بالضآلة. لسنوات شعرت بأنني ضئيلة وأنانية لأنني لا أفكر إلا في كيف أحسن إدارة حياتي والتعرف على نفسي من الداخل وتطوير نفسي وكيف أقف بثبات على الأرض دون الاعتماد على آخرين، ودون أن أصعد على أكتاف آخرين وأفوز في اللعبة بشرف!
هل يبدو الأمر مضحكًا حين تسمعه؟ فكرة أنني شعرت بالأنانية لأنني كنت أهتم بشؤوني؟ لم يكن الأمر مضحكًا بالنسبة لي حتى وقتٍ قريب. حين اكتشف أن أكبر حلم يمكن لأحدهم أن يملكه هو أن يكون شخص جيد قدر الإمكان، وأن أمرًا كهذا يمكن أن يحتاج عمرًا بأكمله ليفعله لأنه في كل يوم يكون التحدي أصعب من ذي قبل.

وقعت لسنوات في فخ القلق المرضي وأحيانًا في فخ الاكتئاب، ولكنني أشعر الآن بهذه الراحة التي كتب عنها الأمريكي "وليام جيمس": "إن التخلي عن الطموحات الكبيرة لهو نعمة جالبة للارتياح بمثل قدر تحقيقها تمامًا. تبزغ خفة غريبة في قلب المرء إذا ما تقبل بإيمان طيب ألا يكون شيء مذكور في مجال محدد".

أحاول الآن ألا أخجل من "حلمي الكبير" في أن أكون نفسي . أحاول أن أسدي أكبر جميل للعالم، وهو أن أهتم بنفسي، ألا أكون شخصًا مسيئًا لا لنفسي ولا للمحيطين بي. أحاول ألا أتبنى أحلامًا كبيرة ورنانة وأفني عمري وراءها واكتشف فقط حين أكون على فراش الموت أنها لم تكن أبدًا تخصني، وأن السعادة التي أنشدها حَقًّا كانت في حياة أكثر بساطة من تلك التي غرقت في مطاردتها.


الغرفة

 ماذا يمكن أن تفعل امرأة اختطفها مختل وحبسها في غرفة واحدة تحت الأرض لعدة سنوات؟ ماذا يمكن أن تفعل حين تجد نفسها أُمًّا لطفل من رجل لم تحبه يومًا ، في وضع لا يمكن أن تحبه أبدًا؟ كان أمام بطلة فيلم "غرفة" Room (2015) خيارا، إما تشارك طفلها كل حقدها وحزنها على حياتها التي فقدتها إلى أجل غير معلوم وتحولت مأساة، أو أن تخلق في تلك الغرفة، عالما كاملا للصغير، تمارس أمومتها كاملة، تعلمه وتسليه وتصنع من بقايا عبوات الطعام الفارغة والأوراق القديمة ألعاب مبهجة تنسيها لبضع ساعات أنها حبيسة تلك الجدران.



بالنسبة للبعض، قد يبدو ما فعلته البطلة استسلامًا وتسليمًا لهذا الوضع الكارثي، ولكن بالنسبة لي أجدها موهبة. جَمِيعنَا نتنفس ونأكل وننام ونشرب ونذهب لعملنا ولكن موهبة الاستمتاع بالحياة، كيفما كانت، لا يتمتع بها إلا القليلون.

منذ علقنا في بيوتنا بسبب جائحة فيروس كورونا المستجد وأنا أفكر في بطلة الفيلم. في موهبة الاستمتاع بالحياة بين أربعة جدران.

بالنسبة لي كشخص انطوائي يعتبر البيت ملاذًا آمنًا ويجيد الاستمتاع بكل دقيقة فيه لم أجد تعليمات البقاء في البيت صعبة إلى هذا الحد، على العكس رأيتها هدنة مثالية يحتاجها عالمنا المنهِك المُنهَك. ولكنني أتفهم أن الملايين يفتقدون الحياة الوحيدة التي يعرفونها، خارج جدران البيت. ومثل بطلة الفيلم، أمام هؤلاء خيارين، إما يقضون تلك الفترة يبكون على حياتهم التي توقفت فجأة ويرون البيت سجنا كبيرا علقوا فيه إلى أجل غير معروف. أما الخيار الثاني أن يكرروا ما فعلته البطلة، يكتشفون طريقة لتحويل "غرفتهم" إلى عالم كامل يستمتعون بكافة تفاصيله. يستمتعون بنعمة قرب أحبائهم، ويحاولون أن يكتشفوا موهبة الاستمتاع بالحياة.

بطلة الفيلم التي لم تستلم أبدًا وجدت مخرجًا في النهاية، ولكنها حين خرجت للعالم مع طفلها الذي لم يعرف أن هناك عالما خارج حدود الجدران الأربعة، لم تكن ضيعت كل تلك السنوات من عمره أو عمرها في حزن لا يفيد، احتاجت للتعافي، واحتاج صغيرها للتأهيل من أجل مواجهة هذا العالم الشاسع ولكنهما لم يحتاجا لأن يبدأ كلا منهما من تحت الصفر، وستندهش حين تجد نفسك متفهمًا لشعورهما في بعض الوقت بالحنين إلى تلك الغرفة/ الزنزانة.


نشر في موقع جريدة اليوم السابع 

11 أبريل 2020 

no image
3 كيلومترات تفصل بيتي عن مكان عملي، حين نترجمها إلى مسافة زمنية لن تتخطى بضع دقائق في الذهاب وساعة كاملة في الإياب لأنني أفضل المشي. وخلال هذه المسافة القصيرة جدا التي تتمحور حولها حياتي كلها تقريبا في الفترة الأخيرة لا أحد تقريبا يراني كما أنا، باستثناء القليل من الأصدقاء المقربين، أما الغالبية ممن يقابلونني فلا وقت لديهم للتفكير أو الاستكشاف، هناك دائما قالب بانتظاري.
هل أبدأ بالترتيب؟ في رحلة العودة إلى البيت التي تحمل الكثير من التفاصيل أحب أن أبدأ دائما من بائع الذرة المشوية، ذلك الصعيدي الطيب الذي أشترى منه على مدار عامين، ويفضل أن يمنحني لقب "الدكتورة"، يتحدث معي بإعزاز واحترام، بعد أن ارتاح لذلك القالب الذي وضعني فيه. يراني أعود أحيانا في أوقات متأخرة، يتوسم في الأدب، وبنظرة سريعة لنظارتي قرر أنني بالتأكيد طبيبة، فهذا هو التفسير الوحيد لمواعيدي التي تتناقض مع مظهري ولا شيء يجعل المعادلة متسقة سوى العمل في الطب.
خلال رحلة التسوق التي تبدأ من بعد مغادرتي إياه وتمتد حتى البيت، أمشي في مسار محفوظ، بائع الخبز، متجر اللحوم المستوردة، بائع الخضروات، ثم بائع الفاكهة، وأحيانا أمر على السوبر ماركت لأتم قائمة المشتريات اليومية.
خلال الجولة التي تستغرق أحيانا نصف ساعة وأحيانا أكثر، أفضل أن أجرى كل المكالمات التي يجب أن أجريها كي لا أرد على الهاتف أبدا في البيت، في عيون البائعين أرى شبح ابتسامة أحيانا وشبح سخرية في أحيان أخرى، من تلك البنت التي لا يفارق الهاتف أذنها أبدا، حتى أنها لا تريد التخلي عنه في تلك الدقائق التي تتسوق خلالها، أحيانا يقرر بعضهم أن يهذبني بتجاهل دوري في الطابور طالما أنا لم أحترم طقوس التسوق المبجلة وأترك الهاتف!
بائعة اللحوم المستوردة التي أشترى منها الطعام يوميا للقطط، لم تكن تعرف هذا السر، وضعت العديد من السيناريوهات لتفسر شرائى يوميا كيلو كامل من الكبدة المستوردة، أعتقد أنها في مرة فكرت أنني أدير مشروعا للساندوتشات أو ربما لدى أسرة كبيرة مهووسة بالكبدة أو أنها لم تجد تفسيرا أبدا لأنها في النهاية اضطرت أن تسأل بطريقة غير مباشرة عن سر هذا الطلب اليومي، وحين عرفت أنني أشتريها للقطط اختفت النظرة الودودة من عينيها وباتت تعتبرني فتاة مدللة سخيفة، أقدم للقطط طعاما يشتريه الناس لأسرهم، قفز سعر الكيلو جنيهين بعد أيام، على الرغم من أنني أحيانا أكتفي بأكل البطاطس المقلية حين تختل الميزانية لأنه لن يمكنني بالطبع تقديمها للقطط.
في العمل أقابل المزيد من الصور النمطية، خاصة حين أخرج من دائرة الكيلومترات الثلاث، النظرة الصارمة على وجهي بسبب التركيز في العمل تعنى للبعض أنني بالطبع لن أفهم أية نكتة، أو يصدمون حين ألقى واحدة. حجابي يعنى أنني بالتأكيد "إخوانجية"، لدرجة أن أحدهم كان يمتنع عن إلقاء تحية الصباح علي لأنه "ما بيحبهمش"، في استطلاع بالشارع يتعمد الرجل الذي أسأله عن رأيه في أي شيء، غالبا لا علاقة له بالسياسة، أن يشتمهم ويتلذذ بمراقبة رد الفعل على ملامحي.
يتحدث إلي آخر عن المعاناة التي بالتأكيد لن يعرفها أمثالي من الصحافيين، وتجزم أخرى أنني، كصحفية مدللة، لا أعرف بالطبع شيئا عن المطبخ. عشرات القوالب أتنقل بينها في كل دقيقة، وعشرات الألقاب والوجوه أحملها، رغما عنى، كل يوم، الكل يكتفى بالتحديق في قطعة " البازل " الأقرب إليه والتي يعرفها أكثر، ولا أحد يهتم أبدا بأن يرى اللوحة كاملة!
no image

 في محادثة تليفونية طويلة مع الصديقة التي أحب، سألتني فجأة: لم أسألك من قبل عن نوعك المفضل من الرجال؟ عما تبحثين؟ أو عمن؟ صدمني السؤال الذي لم أفكر به من قبل، أو لم أجرؤ على التفكير به من قبل. أنا التي اعتدت، كالكثيرات على تقبل الحب كمنحة، لا يصح أن أدقق بمواصفاتها كي لا أكون مثل الشحاذين فارغي الأعين.

لم أفكر أبدًا وأنا في السابعة والعشرين من عمري في شكل الحب الذي أستحق. في الرجل الذي أبحث عنه. رغم أنني كنت أفكر طوال الوقت في الرجل الذي يجب أن أهرب منه.

بعد صمتٍ لم يطل كثيرًا فوجئت بنفسي أجيبها بأنني أبحث عن أذن. عن رجلٍ ينصت إلى في كل مرة باهتمامٍ شديد وكأنني ألقِ الخطبة التي أعلن فيها موعد نهاية العالم.

أخبرتها أنني ممن يؤكلون من أذنهم، بإمكان كلمة أن تأسرني وبإمكان أخرى أن تبعدني إلى آخر الأرض.

اكتفيت وقتها بهذه الإجابة لكنني عرفت أنني بحاجة إلى التفكير أكثر في الحب الذي أستحق، وليس الحب الذي أتلقاه!

الآن وبكل وضوح أدرك أنني أستحق فعلاً رجلاً يشبه "الحضن"، يتسع كله وليس قلبه فقط للكلمة التي أقولها، للغضب الذي أحمله، للبراكين التي تثور في قلبي والجنة التي أخبئها خلف بابه. أستحق رجلاً لا أخفى منه ندوبى ، لا جرح الرابعة ولا السنة المكسورة. أستحق حُبًّا يجعله يرى ندوبى علاماتٍ مميزة.

أستحق حُبًّا لا يتطلب مني أن أفقد عفويتي، ولا يضطرني لممارسة ألاعيب النساء كي أحتفظ به. أستحق حُبًّا يجعلني أشعر بالراحة، بالأمان والاطمئنان لا يكون مصدر قلقي الدائم.

أستحق ألا أضطر لقضاء الليل ألعب بحروفه الكلمات المتقاطعة كي أستخرج منها كلمة انتظرتها طويلاً ولم ينطقها، أو إشارة طمأنينة لم يجد بها عَلَى.

أستحق حُبًّا لا يستطيع إخفاءه. حُبًّا واضحًا وبسيطًا لا يحتمل التأويل أو التفسير أو التفتيش في ما وراء الكلمات.

أستحق رجلاً يستحق كل هذا الحب في داخلي. يستحق أن أدون له كل ليلة رسالة، أن أبكى لأجله في الغياب. أن أشتاقه ، أن أدلله، أن ينام قرب قلبي كل ليلة ويزورني في أحلامي، أن أستمع لأجله لكل الأغنيات التي يخفق قلبي لها، وأهديه أحلاها.

أستحق رجلاً يستحق أن أكون إيزيسه. أن ألملم شتات روحه ولو ألف مرة ولا أتعب. أستحقه يراني كذلك، فلا ييأس، لا يخجل أن يلجأ إلي ويطلب ترميمه. وألجأ إليه ويرممنى .

أستحق رجلاً أتذكره وأبتسم كلما رأيتُ اللوحة التي أحبها، لتلك التي تختبئ بين ضلوعه وتنام. وليقيني به أطبعها بالحجم الكبير وأغلفها بعناية لتكون أول لوحة أعلقها على جدران بيتنا.

أستحق رجلاً يستحق كل لقطات الأفلام وأبيات الشعر والاقتباسات التي أحببتها عن الحب وتمنيتُ لو أجد من أهديه إياها يومًا دون ذرة شك واحدة داخلي بأنه ليس تمامًا كذلك. أبحث تحديدًا عمن أهديه ذلك الاقتباس من الفيلم الذي لا أذكره، لكن الفتاة ذات العينين الساحرتين والوجه البريء والتاج على رأسها قالت فيه "أحبك لأنك الوحيد الذي رآني وأنا غير مرئية".