أبحث عن..

في أمسية هادئة جلست لأشاهد فيلمًا رشحته صديقة لي. على الشاشة أمامي كنت كمن يرى مشهدًا من أحلامه: امرأة ستينية هادئة ورائقة، تجلس إلى طاولة في غرفة مرتبة بمنزلها الأنيق الهادئ، يتسرب ضوء النهار مع نسيم الصباح المبكر من خلف الستارة الرقيقة على النافذة.  تحتسي مشروبًا دافئًا أعدته لنفسها للتو. وجلست لتتفقد الجرائد بهدوء بينما موسيقى ناعمة تدور في خلفية المشهد.

 فجأة تمزق المشهد المفعم بالسلام والراحة بطرقات على الباب. تذهب لترى وهي مندهشة من ذلك الزائر المبكر، فتجد امرأة أنيقة بابتسامة مشرقة وملابس زاهية اللون، تخبرها أنها من اللحظة عينت وصيّة عليها من المحكمة وأنها من الآن وصاعدًا لم يعد بوسعها التصرف في حياتها كما يحلو لها لأنها، بناء على قرار المحكمة ذلك، تعرف مصلحتها أكثر منها وستتولى الاهتمام بشؤونها، حيث يتيح القانون تعيين وصي من قبل المحكمة على المسنين الذين لا يمكنهم العناية بأنفسهم، ويعانون إهمالاً من ذويهم أو لا يوجد من الأساس أقارب يمكنهم الاهتمام بهم. وبموجب قرار الوصاية ذلك يحق لصاحبة الابتسامة المشرقة إلحاقها بدار للمسنين وتولي المسؤولية القانونية عن كافة ممتلكاتها.

هذا المشهد من بداية فيلم "I care a lot" أو "أنا أهتم كثيرًا" وهو فيلم أمريكي من إنتاج 2020 وعرض في 2021 ومصنف كفيلم "إثارة كوميدي" إلا إنه لم يفعل شيئًا سوى استفزازي واستهلاك أعصابي. هل كان الكوميدي في الفيلم أن من حصلت على هذا الأمر من المحكمة نصابة ومحض لصة ؟ لا أرى الأمر كُومِيدْيَا حين أطبقه على الحياة. لم أستمتع بالفيلم، لم يمكني أن أقول لنفسي، كما أفعل عادة، "مهلاً إنه مجرد فيلم في النهاية". كنت مُستفَزّة وغاضبة وأشعر أنني تلك المرأة التي سلبت حياتها للتو.


تلك الطرقات على الباب التي أفسدت الصباح المثالي لهذه المرأة الستينية أفسدت أمسيتي أيضًا، وجعلتني أشعر بالغضب كلما تذكرت الفيلم. تخيل أن تكون في هذا المكان: لقد عشت وواجهت الحياة بصبر، اتخذت قرارات بعضها صائبا وبعضها لم يكن كذلك، لكنه على الأرجح علمك درسًا لا ينسى بسهولة. عملت بجد، وتكاسلت أحيانًا. قاتلت من أجل فرص رأيتها ذهبية، وفوت فرص أخرى لأنك أسأت تقديرها أو ربما لم تعرف أنها فرصة. وصلت في النهاية إلى تلك المرحلة التي تشعر فيها أنك تستحق الراحة. تستحق أن تستمتع بما حصدت. تتوقف أخيرًا عن اللهاث ومطاردة الفرص وتحمل المسؤوليات والأعباء وتحمل عبء قلبك وحده كما يقول درويش.

تخيل أن تصل لهذه المرحلة أخيرًا ثم تفاجأ بمن يزيحك جانبًا ويسلب منك حياتك. يضع بين يديك ورقة تخبرك أنه أدرى بشؤونك منك وأنه من الآن وصاعدًا سيكون الآمر الناهي في كل ما يخصك! يتهمك أنك أصبحت مشوشًا بحكم التقدم في السن ولم تعد قادرا على الحكم على الأمور بشكل جيد، ولا العناية بنفسك وبالتالي فهو سيتصرف بدلاً منك.

حاولت أن أنسى الفيلم الذي شاهدته قبل شهور. تجنبت كل مقاطع الفيديو التي تنشر عنه، كل المراجعات وحتى الصور التي تصادفني على السوشيال ميديا كنت أمررها سريعًا، لأنه يضغط بشدة على أعصابي ويثيرها؛ ولكنني تذكرته رغمًا عني وأنا أتابع- كالكثير من المصريين- أزمة الفنان رشوان توفيق الذي فوجئ أن ابنته وحفيده رفعا ضده دعاوى قضائية بسبب اعتراضهم على إعادته توزيع ممتلكاته على أبنائه وأحفاده. والتي سرعان ما تحولت إلى قضية جدلية على السوشيال ميديا يدلي كل شخص بدلوه فيها، ويصدر الأحكام على قرارات الأب الفنان، ناسين أو متناسين أنها لا تزال حياته، وأنه لا يحق لأحد أن يسحب منه حق التصرف كما يشاء في حصاد عمره وكده ويخبره أنه "يهتم أكثر" لأمره وأدرى منه بما يجب أن يفعله!

حين تابعت ما يحدث الآن في أزمة الفنان رشوان توفيق وذلك الرفض والغضب من غالبية المجتمع للواقعة والتعاطف والمساندة للفنان القدير، شعرت أن هذا لم يكن فقط لأنه فنان عرفوه وأحبوه وأحبوا ما قدموا، ولكن لأنه أب في المقام الأول وإنسان ولا يحق لأحد أن يسلبه حقه في الاختيار ولا التصرف. وشعرت بالطمأنينة لأن عبارة "أنا أهتم كثيرًا" التي تعتبر نكتة في الفيلم، حقيقية هذه المرة، وذلك الغضب لأجل الفنان الأب حقيقى ويعكس خوفًا داخل كل منا من تلك اللحظة التي لا بد وأن تأتي ويتقدم به العمر ولا يريد أبدًا أن يظهر من يسلبه حقه في الاختيار واتخاذ القرارات بدعوى أنه "مهتم كثيرًا" بأمره.


رابط المقال على موقع اليوم السابع