أبحث عن..

«يا بنات عايزة رد حالا يقصف جبهة جارتى»، «يا بنات حماتى قالت لى كلمة ضايقتنى وعايزة رد يقصف جبهتها»، «شوفوا قصفت جبهتها إزاى؟» بالتأكيد تصادف واحدة من هذه العبارات مرة أو أكثر على أى منصة من منصات التواصل الاجتماعى، فضلا عن العشرات من لقطات الشاشة التى تسجل جزءا من محادثة بين اثنين، أحدهما يقصف جبهة الآخر، ويستعرض فنون الوقاحة فى الرد والسخرية، سواء كانت محادثات حقيقية، أو مختلقة فقط من أجل الاستعراض، ودائما ما تقابل هذه الردود بالتصفيق والتشجيع والاستحسان والإشادة بخفة الظل وسرعة البديهة، ولا يفكر أحد أبدا ماذا لو أنه فى مكان الآخر، ماذا لو أنه هو من يتلقى هذه الردود وليس قائلها؟ 
قصف جبهة ـ مقال ـ مقالات سارة درويش ـ سارة درويش ـ الكاتبة سارة درويش

بعد أن أصبحنا رسميا فى زمن «قصف الجبهة» لم يعد الشخص لطيف القول، حلو اللسان، إلا موضة قديمة وشخص بلغة هذه الأيام «نرم» ينهزم بعد أول قصف جبهة ويصمت، وهو ما يدفع الكثيرين - ممن يرفضون هذا الموقع - إلى أن يكونوا هم الطرف الآخر فى المحادثة، بأن يبحثوا عن ردود حارقة ومثالية، حتى لو لم تكن نابعة منهم، ولا تعكس شخصيتهم ولا تربيتهم ولا بيئتهم، فقط لأنهم - لا إراديا - لا يحبون أن يبدوا بهذا الضعف الذى عابوه وانتقدوه فى عشرات المحادثات المنشورة لقطاتها على السوشيال ميديا.

فى طفولتنا، كانت أمهاتنا وجداتنا - والكبار بشكل عام - يحرصون على تعليمنا فنون الرد المهذب على الآخرين، ويجدون لكل شخص عذرا لنتلطف معه فى القول، فهذا أكبر منا سنا لا ينبغى إلا أن نرد عليه بتهذيب، وهذا صغير ينبغى أن نكون رحماء معه، ونكون له قدوة ونحسن القول معه، وهذا جار أوصانا به رسولنا الكريم، وهذا قريب يربطنا به رحم، لا يجب أن تكون بيننا ضغائن، وإن انقطعت الأسباب والأعذار ففى النهاية علينا أن نحسن القول لأن كل إناء ينضح بما فيه، ولساننا الطيب يعكس تربية وبيتا طيبا، لا أعرف هل توقفت الأمهات والجدات عن تعليم أبنائهن ذلك؟ أم أن صوت الضحكات على السوشيال ميديا أعلى من تلك الأصوات التى تذكرنا بخلقنا الطيب؟

أذكر أننا فى الماضى كنا نتبادل قصصا من التراث العربى أو أخرى من التاريخ الغربى عن الفصاحة والردود المفحمة الذكية والساخرة، والتى كانت تحدث فى مواقف بعينها للخروج من موقف صعب، أو للدفاع عن النفس أمام إهانة قوية وكبيرة، وكانت تتم ببلاغة وفصاحة، تعكس سرعة البديهة مع خفة الظل والحكمة فى اختيار الكلمات، أما الآن ما يحدث هو أن الأحاديث الطبيعية العادية بين الناس توشك على الانقراض، وأصبحنا نعيش طيلة الوقت فى حرب كلامية ضروس، نفكر دائما فى ردود تصلح لأن «نبروزها» على السوشيال ميديا، ونحكى عنها مزهوين حتى ولو فى دائرة أصدقائنا، وحتى المجاملات العادية والتقليدية التى اعتدنا عليها، واعتدنا تبادلها فى الأفراح والمناسبات والتجمعات العائلية الروتينية أصبح البعض يكرس لفكرة أنها إهانة أو تطفل تتطلب ردا مفحما و«قصف جبهة» يخرس الآخر، وأكثر ما يحزن هو أن من لا يزال شخصا طبيعيا لا تحضره تلك الردود الحارقة المحرجة، فورا يشعر بالخجل من نفسه ومن ضعفه ويلوم نفسه مرارا بعد التفكير لساعات لاحقا فى أن واحدا من هذه الردود لم يواتِه لحظة النقاش أو الحوار.

أتمنى أن يستعيد حوارنا اليومى إيقاعه الطبيعى الهادئ «الطيب»، وألا نخجل ونحن نرد بذوق وبابتسامة على المجاملات التقليدية أو الأسئلة العادية كـ«عقبالك» «هنفرح بيكى إمتى» وغيرها، وندرك جيدا أنها لا يقصد منها إهانة ولا معايرة وإنما فقط هى أمنيات طيبة أخذ بعضها شكل الأسئلة، أتمنى ألا نلوم أنفسنا لأننا لم «نقصف جبهة» فلانا ولا علانا، فكما يقولون «بعض المعارك فى خسارتها شرف»، أتمنى أن نشكر الله فى كل مرة لأنه رزقنا نعمة الذوق واللسان الطيب، فالبعض لا يملكونه ويخسرون الكثير بسبب ذلك، سواء كانت خسارتهم من رصيد المحبة والقبول لدى الآخرين، أو خسارة المواقف لأنهم يضيعون حقهم بسلاطة اللسان وردود الفعل غير المحسوبة.

سارة درويش
مقال منشور بتاريخ 06 نوفمبر 2022 بموقع وجريدة اليوم السابع | المزيد من المقالات