أبحث عن..

"الألم مجرد فكرة، المرض مجرد فكرة، الحياة والموت، مجرد فكرة، وكل شيء على هذه الأرض، محض فكرة" هكذا أقنعني أبي ، وأنا اقتنعت بسهولة بكلماته، ليس فقط لأني أعشقه، ولا لأنه كل عالمي، بل أيضا لأنه كان مؤمنا جدا بهذه الأفكار. كنا نحيا وحدنا سويا بعد وفاة أمي، بعد رحيلها علمني أبي درسه الأول: "الحزن مجرد فكرة. لا وجود مادي للحزن، نحن من نخلقه، نحن من نسمح له بأن يقتلنا أحيانا، أو يحفزنا على النجاح في أحيان أخرى"، علمني أن حزني على أمي لن يفيدها بشيء لو سمحت له أن يقتلني، بل على العكس، إذا جعلت من حزني على فراقها حافزا للنجاح والاستمرار قوية في حياتي فسيسعدها هذا كثيرا.
- ولكن يا أبي، بما أن حزني لن يفيدها في شيء، نجاحي أيضا لن يستطيع إسعادها؟؟
- لا يا صغيرتي، سيسعدها، سيسعدها كما لو كانت موجودة بيننا، اسمعي يا صغيرتي، الحياة والموت مجرد فكرة، يمكنك أن تبعثي في أمك الحياة طالما وضعت هذه الفكرة في عقلك، ستظل حية بيننا، لن تموت إلا إذا صدقنا أنها ماتت، الموت والحياة مجرد فكرة "، وكان هذا الدرس الثاني الذي علمني أبي إياه.
* * * *
حظيت بحياة مثالية، نعم، الحياة حين تستمر دون ألم، أو حزن، أو فشل تكون بالفعل حياة مثالية، أن تستمر الحياة كما أريدها، مهما كانت الظروف المحيطة، تكون حياة مثالية. لم أكن أمرض أكثر من دقائق، بمجرد أن تغزو فكرة المرض أو التعب عقلي أهاجمها بشراسة حتى تنسحب خائبة، بعد عدة هجمات لم أعد أشعر بالألم حتى ظننت أنه فقد الأمل في هزيمتي. ظننت أني تحولت إلى كائن أسطوري، نجاحي في عملي كان مبهرا ومثيرا للشكوك أيضا لمن لا يعرفني جيدا، لقد تقدمت كثيرا في عملي حتى تخطيت من يكبرونني بعشر سنين.
لم أر في هذا شيئا غريبا، فأنا أعمل كآلة صماء، دون كلل ولا ملل ولا لحظة ضعف أو انهيار واحدة. لكن فجأة هاجمني الوحش الذي سرق أمي، هاجمني السرطان وعاد الألم، عاد بكل قسوة، لأول مرة أعرف الانهيار، رغم إيماني بأن المرض مجرد فكرة، إلا إنني لم أستطع الهرب من صورة أمي وهي تصارعه ولا يربطها بالحياة إلا عدة أنفاس تصلها عبر الأجهزة الطبية والأسلاك، كادت الصورة التي تأبى أن تغادر خيالي أن تهزمني لولا وجود أبي.
أعاد أبي لي إيماني السابق بأن المرض مجرد فكرة، ذكرني بأني أقوى من الألم، ذكرني بعدد المرات التي هزمته فيه، كان دفاع أبي مهزوزا ربما بفعل الزمن أو بفعل الخوف علي ، لكنه ساعدني كثيرا، تشبثت بالحياة وقاومت المرض بصورة أذهلت أطبائي، استعنت بالله كثيرا، استعنت بأمي، نعم لقد عادت أمي للحياة مرة أخرى، كلما اشتد علي الألم كانت تأتيني تأخذني بين ذراعيها وتحكي لي حكاية مسلية حتى أنسى الألم، في البداية كنت أتعمد استحضارها بعقلي، لكن مع مرور الوقت كانت تشعر بي وتأتيني كلما احتجتها.
تخطيت هذه المحنة في سرعة مدهشة بالنسبة لتاريخ هذا الوحش الضاري، قررت أن أحاربه حتى بعد أن انسحب من جسدي، كنت أحاربه في أجساد الآخرين، خصصت جزء من وقتي لزيارة مرضى السرطان، كنت أعرض عليهم أوراقي الطبية أثناء المرض وبعد شفائي منه، وأحكي لهم قصتي في مقاومته، صحيح أني أقنعت القليلين بالفكرة، إلا إنني بعثت الأمل في نفوس الكثيرين ،
* * * *
كنت لا زلت في فترة النقاهة حين وقعت الحادثة، اصطدمت سيارتي بسيارة نقل طاش أحد إطاراتها. فقدت الإحساس بكل شبر من جسدي، لكن عقلي كان لا زال حيا نابضا وبكامل حيويته. لم أكن أشعر بأي ألم حتى أحاربه، كنت معلقة بين الحياة والموت سمعت كل حرف قاله الأطباء عن حالتي وأنا لا أقوى حتى على فتح جفوني، لم أكن أتألم، كنت أشعر أني بخير لكن هناك شيء ما ليس على ما يرام وسيتحسن بالتأكيد، أنا حية طالما أنا أفكر، أنا حية طالما لم أصدق أني سأموت بعد.
ما ساءني فقط هو انهيار أبي، أضعف كبر السن إيمانه بأفكاره لكنني كنت أتبناها بقوة، الحياة والمرض والألم والموت مجرد فكرة يا أبي، لا تحزن! لم أستطع أن أكلمه للأسف، ولا حتى أن أراه، أو أكلمه بعيني لقد كان بارعا في فهم كلام عيوني.
كنت اطمئن على حالته من صوته، كان دائما يحدثني وكأنه يعلم أني أسمعه، وكنت أسمع حديثه مع الأطباء،
* * * *
أخيرا أدركوا أني أسمع ما حولي، قالوا لأبي اليوم إنني أستطيع سماعه، يا رب بث الأمل في نفسه، يارب أخبره أني بخير أني لا اتألم، سيكون كل شيء على ما يرام.
* * *
اليوم أكمل يومي الخامس عشر في الغيبوبة، هكذا قال أبي للأطباء مستفسرا منهم عن سبب ثبات حالتي، لا يمكن أن يسميه استقرار لأن ال استقرار يعني أن الأمور على ما يرام، لكن حالتي لا تتحسن ولا تسوء، فلماذا؟؟ بدأ أبي يفقد أعصابه فحاول الطبيب تهدئته مذكرا إياه بأني أشعر وأسمع كل ما يدور، أخذ أبي خارج الغرفة ولم أعد أسمع إلا بضعة حروف متناثرة من كلامه.
قصة قصيرة الموت الموت فكرة سارة درويش
لا تقلق يا أبي، إني أحضر لك مفاجأة سعيدة، أشعر أني بدأت أتحسن، أشعر لأول مرة منذ خمسة عشر يوما بوخز خفيف في كعب قدمي وباطنها، الوخز يصعد لأعلى ويبدو أن الشلل بدأ يلملم نفسه من جسدي وينسحب، سأنتصر مرة أخرى على الألم يا أبي.
بدأ الوخز يصعد إلى أعلى في جسدي لكنني لا أستطيع تحريك أصابع قدمي كما توقعت!! ربما السبب يرجع لخمول أعصابي التي نست الحركة طوال هذه الأيام؟! ربما،
عاد أبي للغرفة ومعه الطبيب، لقد جاءا بسرعة فور أن أطلقت الأجهزة المتصلة بجسدي أزيز متواصل غريب، عليك اللعنة أيتها الأجهزة هل ستفسدين مفاجأتي لأبي؟؟ هل ستبشرينه بشفائي قبل أن أفعل؟؟
همس الطبيب في أذن أبي بكلمات لم أستطع تبينها، أتوقع أنه يخبره بتحسن حالتي، لكن عجبا لماذا علا نحيبه؟؟ أمسك أبي بيدي ولا زال يبكي!! ربما هي دموع الفرحة؟!" سأفتقدك يا صغيرتي، سأفتقدك كثيرا،
ماذا تقول يا أبي؟؟ سأشفى، سأتحسن، سأفتح عيني بعد دقائق
"أنا أعلم أنك تسمعينني، رددي الشهادتين يا بنيتي..."
أردد ماذا؟ الشهادتين؟؟ هل أموت حقا؟؟ هل انتهت حياتي؟؟
"... رددي خلفي، لا إله إلا الله، محمد..."
كيف تنطقها يا أبي؟؟ كيف تكون بهذه القسوة؟؟ كيف تخبرني أنك فقدت إيمانك بأني سأحيا؟؟ لماذا صدقت أني سأموت؟ وكيف؟؟ حتى أنت يا أبي؟؟ حتى أنت؟؟ لن أواصل المقاومة، سأنسحب الآن وسأسحب مفاجأتي لك، لن تجدي معركتي مع الألم طالما أنك استسلمت، استسلم المحارب الوحيد معي فلماذا أقاتل؟؟
سأنسحب بهدوء، فأنا مجرد فكرة، فكرة لم يعد يؤمن بوجودها أحد!