أبحث عن..

لا يغير الوقت نظرتنا إلى العالم فقط يا رفعت وإنما الأهم هو ما يغيره في نظرتنا لأنفسنا. قبل سنوات كان أكثر ما يرعبني أن أكون شخصًا روتينيًا، يفعل الشيء نفسه كل يوم بترتيب ممل وقاتل. لا يتغير شيء في حياته، ولا ينتظر مفاجأة واحدة. ولكنني بعد سنوات أدركت "برعب" أنني أسعى جاهدة لأن أكون هذا الشخص الروتيني صاحب الجدول الثابت، دون أية مفاجآت. وبعد المزيد من الوقت أصبحت أتقبل تمامًا أن أكون هذا الشخص.
أصبحت أرى في الروتين الثابت نوعًا من الأمان. أن تعرف ما يمكن أن يحدث في يومك على مدى أسبوع كامل ليس شيئًا مرعبًا كما كنت أظن، بل أراه الآن شيئًا رائعًا! كانت حياتي دائمًا مليئة بالمفاجآت. بالخطط غير المكتملة والأيام التي لا تعرف أبدًا كيف يكون شكلها في الدقيقة التالية. كل ما يحدث مهدد بألا يكتمل. وإن اكتمل لا تشعر أبدًا بلذته لأن "القلقان عمره ما ينبسط"*، ورغم ذلك كانت لدي فرصة للملل، للثوان الفارغة من كل شيء حتى أنني أسمع فيها دقات الساعة المرعبة.
الآن أصبح الروتين هو مازورتي لقياس مدى سعادة يومي. ذلك اليوم الذي يسير تمامًا كما خططت له رائع، وذلك الذي ينحرف عن مساره، ولو قليلاً، يكاد يصيبني بالجنون. وربما كانت كل تلك المفاجآت القديمة هي بداية هوسي بالسيطرة!
أدركت أنني الآن أفعل كل شيء لأستعيد لحظة ما بحذافيرها. هناك داخل قلبي مكان ما أختزن فيه كل تلك اللحظات السعيدة بكافة أبعادها، الوقت وحالة الطقس والمذاق في فمي والرائحة. أحاول استعادة أيها كل يوم. في الحقيقة ما أحاول استعادته فعلاً ليس اللحظة وإنما شعوري وقتها.
أكلة الرنجة ثم البرتقال في عصر يوم شتوي دافئ. كل طعام أمي بنفس مذاقه ورائحته. رائحة ومذاق اللب الطازج مع كتاب بين يدي. الفيشار الساخن مع فيلم أحبه. القطط المستغرقة في النوم فوق بطانيتي في ليلة شتوية. الشقة المعبقة برائحة البخور والستائر المسدلة في ظهيرة يوم صيفي. الزكام ورائحة البرتقال والتلفزيون في غرفتي مع كوب شاي ساخن. رائحة نسمات الفجر مع رائحة كتاب ورقي.
كل لحظات الرضا البسيطة القابلة للتكرار والتحقق أختزنها يا رفعت داخل قلبي وأحاول استعادتها كلما سنحت الفرصة لأنني لم أشبع أبدًا منها لحظة حدوثها!