أبحث عن..


أنت بالتأكيد تعرف مدى صعوبة كتابة هذه الرسالة. الكتابة هذه الأيام صعبة يا رفعت والكتابة إليك بالذات أصعب، ولكننا اتفقنا: لن نتحدث أبدًا عما حدث، سنتقن التظاهر بأنه لم يحدث حتى نصدق ذلك فعلاً.
قبل أسابيع قال بائع العطور إنه يتذكرني لأن العطر الذي أطلبه مميز، لم يسمح لابتسامتي الخافتة أن تكتمل وأضاف أن السبب هو أنه قديم جدًا فلا يعرفه إلا القليلين. لست متأكدة هل يتذكرني فعلا أم أنه يقول ذلك لمجاملتي ولا أعرف فعلا هل يهمني كثيرا أن يتذكرني؟ لكنه كان صادقًا في أن غالبية من يشترونه يفعلون ذلك لارتباطه بذكريات معهم.
ورثت حب هذا العطر من أمي، لا زلت أذكر بقاياه في الزجاجة الأخيرة التي ابتاعتها من العراق، ظلت محتفظة بها حتى حين تلاشت قطراته تمامًا ولم يتبق منه إلا رائحة خافتة كذكرى البلاد البعيدة.
لا أعرف متى تخلت أمي عن الزجاجة القديمة، لم أتمكن في طفولتي من التقاط الاسم ولكن شكلها ظل محفورًا في ذاكرتي. حاولت لسنوات أن استكشف مذاقي الخاص في العطور ولكنني لم أجد أبدا ما يناسبني، هذا سكري أكثر من اللازم وذلك يفسد مزاجي وهذا صارخ أكثر من اللازم. حتى صديقتي عاشقة العطور التي يمكنها أن ترى في كل شخص عطر يشبهه لم تجد عطرًا يشبهني، حتى قادتني الصدفة إلى ذلك الذي يشبه مذاق البلاد البعيدة.
اشترته أختي مرة و تحمستُ فور رؤية العبوة، لا يزال يحمل نفس الشكل القديم بعد أكثر من عشرين عامًا. أحببته للمرة الأولى وفاء للحظات صفاء أمي ولكنني اكتشفت فيما بعد أنه يشبهني كثيرًا ويحمل ذلك المزيج من التناقضات التي تجعلك عاجزًا عن تصنيفه.
بمناسبة التصنيفات يارفعت، قادتني المصادفة لتلك الفلكية التي تقول إنها عليمة، وقفت أمامها لتستكشفني: خمني لأي برج أنتمي؟ لا أعرف هل كانت الإجابة صعبة فعلا أم أنها تكاسلت عن بذل المجهود، لكنها اندهشت بصدق حين كشفت لها الإجابة. سألتني عن التاريخ كاملا فتراجعت حيرتها وفسرت: رقم 8 يمنحك الرصانة، هذا يفسر هدوءك على عكس أبناء برجك. أفكر من وقتها يا رفعت في كل التناقضات التي أجمعها، في مدى صعوبة فهمي بينما أظن دائما أنني واضحة تمامًا وأكاد أبكي كالأطفال: لماذا لا تفهمني أيها العالم؟ ولا أعرف يا رفعت كيف يمكنني أن أحل سوء تفاهم بحجم عالمي؟ 
تقول صديقتي لا يعرفونك ياسارة لأنك تخبئين نفسك، أعرف أنها محقة ولكنني لا استسيغ فكرة أن أتجول كبائع الفريسكا على الشاطئ مستعرضة آرائي وأفكاري وأحلامي وكل مافي جعبتي أمام الجميع. أقول لنفسي: لا يعرفون سارة لأنك لا تعرفينها ثم يراودني ذلك الهاجس من جديد: بل يعرفون سارة ولا تعرفينها، فأموت رعبًا.