أبحث عن..


فكرت طويلاً في ما أريد أن أقول وفي ما أشعر، وحين قرأت هذه الرسالة لمي زيادة، التي وجهتها بالمصادفة لغريبها، وجدت أنها قالت كل ما يمكن أن يقال، لذا، أيها الغريب إليك هذه الرسالة التي كتبتها مي زيادة كما هي دون زيادة ولا نقصان:

أنا وأنت سجينان من سجناء الحياة وكما يُعرف السُجناء بأرقامهم يُعرف كل حي باسمه. وقد التقينا وسط جماعات المتفقين فيما بينهم على الضحك من سواهم حيناً، والضحك بعضهم من بعض أحياناً.

 

أنا منهم وإياك غير أن شبهك بهم يسوءني. لأني إنما أقلدهم لأريك وجهاً مني جديداً. وأنت، أتجاريهم بمثل قصدي أم الهزء والاستخفاف فيك طوية وسجية؟ ولكن رغم انقباضي للنكتة منك والظرف، ورغم امتعاضي للتغافل منك والحبور، أراني وإياك على تفاهم صامت مستديم يتخلله تفاهم آخر يظهر في لحظات الكتمان والعبوس والتأثر.

 

بنظرك النافذ الهادئ تذوقتُ غبطة من له عينٌ ترقبه وتهتم به. فصرتُ ما ذكرتك إلا ارتدت نفسي بثوبٍ فضفاض من الصلاح والنبل والكرم، متمنيةً أن أنثر الخير والسعادة على جميع الخلائق. 

 

لي بك ثقةٌ موثوقة، وقلبي العتي يفيضُ دموعاً. سأفزع إلى رحمتك عند إخفاق الأماني، وأبثّك شكوى أحزاني – أنا – التي تراني طروبةً طيارة، وأحصي لك الأثقال التي قوّست كتفي وحنت رأسي منذُ فجر أيامي – أنا التي أسير بجناحين متوجةً بإكليل.

 

و سأدعوك أبي وأمي متهيبةً فيك سطوة الكبير وتأثير الآمر، وسأدعوك قومي وعشيرتي، أنا التي تعلم أن هؤلاء ليسو دوماً بالمحبين. وسأدعوك أخي وصديقي، أنا التي لا أخ لي ولا صديق. وسأُطلعك على ضعفي واحتياجي للمعونة، أنا التي تتخيل فيّ قوة الأبطال ومناعة الصناديد.

 

و سأبيّن لك افتقاري إلى العطف والحنان، ثم أبكي أمامك وأنت لا تدري. وسأطلبُ منك الرأي والنصيحة عند ارتباك فكري واشتباك السبل. وإذ أسيءُ التصرف وأرتكب ذنباً ما سأسير إليك متواضعة واجفة في انتظار التعنيف والعقوبة. وقد أتعمّد الخطأ لأفوز بسخطك عليّ فأتوب على يدك وأمتثل لأمرك.

 

و سأُصلح نفسي تحت رقابتك المعنوية مقدمة لك عن أعمالي حساباً لأحصل على التحبيذ منك أو الاستنكار، فأسعدُ في الحالين. وسأُوقفك على حقيقة ما يُنسبُ إليّ من آثام، فتكون لي وحدك الحكم المنصف. وما يحسبه الناس لي فضلاً وحسنات سأبسطه أمامك فنبهني إلى الغلط فيه والسهو والنقصان.
ستقوّمني وتسامحني وتشجعني، وتحتقر المتحاملين والمتطاولين لأنك تقرأُ الحقيقة منقوشة على لوح جناني. كما أُكذّب أنا وشاية منافسيك وبُهتان حاسديك ولا أُصدق سوى نظرتي فيك وهي أبرُّ شاهد. كل ذلك وأنت لا تعلم !

 

سأستعيدُ ذكرك متكلماً في خلوتي لأسمع منك حكاية غمومك وأطماعك وآمالك. حكاية البشر المتجمعة في فرد أحد.

 

و سأتسمّع إلى جميع الأصوات عليّ أعثر على لهجة صوتك. واشرِّح جميع الأفكار وامتدح الصائب من الآراء ليتعاظم تقديري لآرائك وفكرك. وسأتبين في جميع الوجوه صور التعبير والمعنى لأعلم كم هي شاحبة تافهة لأنها ليست صور تعبيرك ومعناك.

 

و سأبتسم في المرآة ابتسامتك. في حضورك سأتحولُ عنك إلى نفسي لأفكر فيك، وفي غيابك سأتحول عن الآخرين إليك لأفكر فيك. سأتصورك عليلاً لأشفيك، مصاباً لأعزيك، مطروداً مرذولاً لأكون لك وطناً وأهل وطن، سجيناً لأشهدك بأي تهور يجازف الإخلاص، ثم أُبصرك متفوقاً فريداً لأفاخر بك وأركن إليك. وسأتخيلُ ألف ألف مرة كيف أنت تطرب، وكيف تشتاق، وكيف تحزن، وكيف تتغلب على عاديّ الانفعال برزانة وشهامة لتستلم ببسالة وحرارة إلى الانفعال النبيل، وسأتخيل ألف ألف مرة إلى أي درجة تستطيع أنت أن تقسو، وإلى أي درجة تستطيع أنت أن ترفق لأعرف إلى أي درجة تستطيع أنت أن تحب.

 

و في أعماق نفسي يتصاعد الشكر لك بخوراً لأنك أوحيتَ إليّ ما عجز دونه الآخرون. أتعلم ذلك، أنت الذي لا تعلم؟ أتعلم ذلك، أنت الذي لا أريد أن تعلم؟