أبحث عن..

السبت 6 ديسمبر: الخامسة عصرا

"سأراه؟!! لا أصدق نفسي.. لقد جاء اليوم الذي حلمت به طوال عمري.. بعد لحظات سأراه.. سيتحول من صورة في خيالي إلى حقيقة.. سأرى هذا الشقي الذي أرهقني طوال أربعة شهور. ولكن ما أدراني أنه ولد؟! ربما كانت بنتا وسأراها بعد لحظات.. كنت دائما أحلم أن تكون لي بنت جميلة، لها ضفائر ذهبية أجدلها بيدي كل صباح قبل أن أذهب بها إلى المدرسة. لكن.. لا.. لا.. أتمنى أن يكون ولدا وأن يشبه والده.."

نظرت إليه فوجدته ساهما "يا الله.. لا زلت عاجزا عن التصديق.. بعد لحظات سأرى ابني؟! بعد لحظات سأرى هذا المخلوق الوحيد الذي لن أجن ولا أثور إذا أحبته زوجتي أكثر مني.. سأرى من أحبه أكثر مني.. حتى لو قسا أو جفا؟؟ لم أصدق يوما ما قاله لي أبي إني سأجرب هذا الإحساس يوما ما.. والآن – ومن قبل حتى أن أراه – أحبه وأتمنى لو دفعت عمري بأكمله كي ألمسه وأضمه بين يدي.."

تلاقت عيناهما وابتسما وكأن كلا منهما سمع ما يدور بخلد الآخر.. تسارعت خطاهما كي يلحقا بميعاد الطبيب، ففي السابعة بالضبط ميعاد لقاء ابنهما لأول مرة.. سيطالعان صورته بالسونار أخيرا. حاولا اللحاق بأي سيارة أجرة بأي ثمن، فالوقت يجري ومشوارهما يستغرق ساعة ونصف الساعة، وبعد معاناة لحقا بآخر مقعدين في سيارة الأجرة الوحيدة التي توقفت لهما.. لكن للأسف المقعدان متباعدان.. ترددت هي كثيرا في الصعود، واقترحت عليه أن ينتظرا بضع دقائق أخرى "أنا كنت عايزة أقعد جنبك يا عزيز"

" معلش يا حبيبتي نعمل إيه.. اركبي بس عشان نلحق ميعاد الدكتور"

ركب في المقعد الأخير ليجنبها المطبات، وركبت أمامه بمقعدين.. وأخيرا تحركت السيارة.

السبت 6 ديسمبر: السادسة مساء

التفتت ونظرت إليه نظرة طويلة لم يفهمها.. سألها بعينيه إن كان هناك خطب ما؟ فهزت رأسها نافية؛ ثم أخرجت هاتفها المحمول وبدأت تكتب له رسالة قصيرة - كما تعودا دائما حين يريدان الحديث بعيدا عن آذان المتطفلين - كتبت له وهي تبتسم "هيجي ولد، وهيبقى شبهك، بس تفتكر ممكن يجي في الدنيا دي حد بحنانك؟!"

وصلته الرسالة فابتسم وكتب لها "لا هتيجي بنت علشان تبقى زيك.. بس ما اظنش تبقى في جمالك، انتي معجزتي الجميلة اللي مش تتكرر تاني ".

وصلتها رسالته فالتفتت له وابتسمت بحب، وكتبت له "لا ولد وشبهك". هم أن يكتب لها للمرة الثانية لكن فجأة ارتجت بهم السيارة، وفي ثوان وجد نفسه ملقى على الطريق.

ارتطمت بسيارته بأخرى انفجر إطارها الأمامي وفقد سائقها السيطرة عليها، فدخلت بالضبط في منتصف سيارة الأجرة التي يستقلانها، فقصمتها وأطاحت بزوجته بعيدا جرى عليها وهو يصرخ ملهوفا " مراتي وابني.. مراتي وابني"، هاله ما أصابها، احتضنها وكأن بإمكان حضنه أن يجعل كل شيء على ما يرام، وأن يوقف نافورة الدم التي تفجرت من رأسها، نظرت إليه وابتسمت ابتسامة متهالكة وقالت "أخيرا اعترفت انه ولد" وانتفضت بين يديه ثم سكنت للأبد.

السبت 6 ديسمبر: الحادية العاشرة مساء

دخل بيتهما، بلا زوجة.. ولا طفل، ولا حتى صورته. لا يعرف حقا هل ما واراه التراب منذ لحظات، هو فقط جثمان زوجته وطفله أم وارى حياته بأكملها التراب، كانت حبه الأول منذ عرف معنى كلمة حب، 7 سنوات دراسية كانت هي الحبيبة والصديقة والحلم، تخلى عن الكلية التي يحلم بها ليكون إلى جوارها، دفن نفسه في العمل منذ كان طالبا بالجامعة ليتمكن من الوفاء بوعده ويتزوجان بعد عامين فقط من التخرج، بعد خمس سنوات من الصبر المر أثمرت نبتته فيها للمرة الأولى وكان ينتظر الطفل الحلم بعد عدة شهور فقط.

قبل ساعات كانت تملأ حياته بالكامل، والآن لم يتبق من حياته إلا بقايا ضحكاتها التي علقت في جدران شقتهما.. رائحتها.. ملابسها.. وبقايا طعام أمضت نهارها في إعداده ولم تتذوقه "من الفرحة مش قادرة آكل، مش هاكل إلا لما أشوفه النهاردة". شعر كأنما انتقل من دهر إلى دهر.. ولكن حسابات الزمن تؤكد أنه لا يزال يعيش في السبت 6 ديسمبر.

سارة درويش