أبحث عن..

 "أفضل الأشياء كان دائمًا أبسطها" مقولة وردت في كتاب "اللغز وراء السطور" للأديب الراحل د. أحمد خالد توفيق، على لسان الناقد السينمائي الراحل سامي السلاموني، وأرى أنها تختصر أحد أكبر أسباب محبتي لـ "العراب"، الذي من فرط بساطته وصدقه وتواضعه، لم يحب كثيرًا ذلك اللقب الذي فرضه عليه قرائه، وعلق عليه في مقابلة تلفزيونية ببرنامج "وصفوا لي الصبر"، حيث قال: "العراب كلمة بتجنني ، بتخليني في مكانة مش بتاعتي ، الروب واسع عليا والعرش عَالٍ عليا".

في كتابه "اللغز وراء السطور" الذي صدر قبل عام واحد من رحيله، حاول د. أحمد خالد توفيق أن يفك "اللغز الكامن وراء السطور، لماذا تبدو هذه الفقرة جميلة وتلك مفككة؟ لماذا تمتعنا هذه القصة بينما تثير تلك مللنا"، وجمع في الكتاب عدة مقالات عن تجربته في الكتابة والأدب.

 حمل الكتاب عنوانًا فرعيًا هو "أحاديث من مطبخ الكتابة" ويجعلك بالفعل تشعر أنك تجلس إلى جواره على أريكة، يحكي لك ببساطة وصدق وخفة ظل عن "سر صنعته"، وحتى عن الأشياء التي تثير حنقه والتي تثير حيرته.

 كان أكثر ما لمسني في الكتاب مقاله عن المتحذلقين الذين يؤمنون بأن "من يحب أن يكون مثقفًا عليه أن يتحذلق ويكتسب آراء المثقفين في كل شيء"، وترديد كلام يبدو عميقًا ولكنه في الحقيقة فارغ من أي معنى لإكساب الشخص أهمية. وفي رأيي، هذا ببساطة هو السبب الذي جعله الشخص والكاتب الأحب إلى قلبي لأنه كان بعيدًا كل البعد عن التحذلق وادعاء العمق، وهو ما انعكس أيضًا على بطله، الأحب إلى قلبي، رفعت إسماعيل، الذي كان صادقًا وبسيطًا فاخترق قلبي بلا استئذان.

 لم تكن البساطة والبعد عن ادعاء العمق أسلوبًا في الكتابة وحسب بل كانت أسلوبًا لحياته، كان يكتب ببساطة، ويمارس حياته ببساطة، ويقابل قرائه ومحبيه ببساطة ويتحدث تمامًا كرفعت إسماعيل عن أحلامه الضائعة وطموحاته والعثرات التي يقابلها بنفس البساطة، فكان صدقه وبساطته يلتهمان في ثواني كل المسافة بينك وبينه وتشعر أنك تنتمي له، ولحروفه، ولعالمه بكل سهولة.

 من وقتٍ لآخر، أصادف على حسابات أصدقائي على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي صورة له، تفسر أيضًا "اللغز" الذي جمع ذلك العدد المهيب من المحبين المحزونين يوم رحيله. ففي صورة يجلس ببساطة يشرب الشاي وحوله عدد من الشباب من محبيه في إحدى الكافيهات، مرتديًا قميصًا وبنطلونًا، وجالسًا بينهم يتحدث بشغف أو يستمع إليهم بإنصات، أو يبتسم بخجل حين يفاجئه أحدهم بتعبيره عن محبته له. وفي صورة يحضر حفل زفاف أحد قرائه أو اصدقائه، نفس الشخص البسيط الخجول الذي يحرص على تلبية الدعوة للفرح رغم أنه ليس من عشاق المناسبات الاجتماعية الصاخبة. وفي صورة ثالثة تراه يسير ببساطة في أحد شوارع مدينة طنطا ويبتسم للكاميرا بخجل.

 كان سر "لغز" أحمد خالد توفيق أنه لم يكن يعرف فقط سر خلطة الوصول إلى القلب واختراقه، لكنه كان يعرف أيضًا تلك الخلطة التي تبعد بعض "الأدباء" و "المثقفين" آلاف الأميال عن عقل وقلب القراء، فقد قال في نفس الكتاب إنه "في عصور ضعف الأدب ينتصر الغموض وتكون هناك خلطة قوية الرائحة تخفي أن الطعام فيه لحم فاسد أو لا لحم على الإطلاق. أضف لهذه الخلطة الكثير من التحذلق والغموض والتعالي والقرف والاشمئزاز من سطحية القراء ولسوف تعبر... تعبر إلى المقهى الذي يجلس فيه الأدباء المشمئزون... جنة الميعاد".


رابط المقال على موقع اليوم السابع